حيفا تكرّمُ بروفيسور سليمان جبران

تاريخ النشر: 04/01/16 | 16:40

أقام نادي حيفا الثقافي والمجلس الملي الأرثوذكسي الوطني في حيفا أمسية تكريمية للكاتب والباحث بروفيسور سليمان جبران، وسط حضور كبير من الأدباء والقراء والأصدقاء والأقرباء، وذلك في قاعة كنيسة ماريوحنا المعمدان الأرثوذكسية في حيفا، بتاريخ 20-11-2015، وقد تولى عرافة الأمسية الإعرمي الأديب نايف خوري، وكانت مداخلات لكل من: د. حسين حمزة، ود. جريس نعيم خوري، والشاعر حسين مهنا، والأستاذ مرزوق حلبي، وتخللت فقرات الأمسية قراءات مقاطع من نصوص سليمان جبران، بصوت رنا صبح، وقدمت آمال أبو فارس كلمة وهدية للمحتفى به، وفي نهاية اللقاء شكر البروفيسور سليمان جبران الحضور والمنظمين والمتحدثين، وقدم له الأستاذان جريس خوري (نائب رئيس المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني/ حيفا) وفؤاد نقارة (رئيس نادي حيفا الثقافي) هديّة رمزيّة، وتمّ التقاط الصور التذكاريّة!
كلمة المحامي حسن عبادي: باسم المجلس الملّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، وباسم نادي حيفا الثقافي وباسمي، أرحّبُ بكم وأهلًا وسهلا للمشاركة في هذه الأمسية الثقافيّة المميَّزة، لتكريم الكاتب والباحث البروفيسور سليمان جبران، من على منصّة نادي حيفا الثقافيّ الذي تأسّس قبل حوالي خمسة أعوام برعايةِ المجلس الملّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، برئاسةِ زميلي المحامي فؤاد نقارة، وبدأت الفكرة لمنتدى ثقافيّ لقراءةِ كتاب في الشهر، فقمنا حتى اليوم بقراءةِ ما يقارب الخمسين كتابًا، وتطوّرت الفكرة لعقد أمسيات ثقافيّة لإشهار كتاب بحضور الكاتب، فأقمنا عشرات الأمسيات، وكذلك أقمنا أمسيات تكريم أديب أو شخصيّة وطنيّة، ومن ثَمّ أقمنا منبرًا للشعر (أمسيات عكاظّيّة حيفاويّة) ليكون منصّةً لشعرائنا. بهذه المناسبةِ أنتهزُ الفرصةَ لأهنئ أصدقاءَ النادي بإصداراتهم الجديدة: الشاعر هاشم ذياب وديوانه (فوضى البدايات)، والشاعرة آمال عوّاد رضوان وديوانها: (أدَمْوِزُكِ وتَتَعَشْتَرين)، والشاعر نزيه نصر الله وديوانه (حبيبتي للأبد)، والشاعر إياس يوسف ناصر وديوانه (قبلةٌ بكاملِ شهرزادَها)، والشاعر إحسان أبو غوش وديوانه (دمعةٌ تخدعُ ظلَّها).
نحن اليوم بصددِ تكريم البروفيسور سليمان جبران وهو بيننا حيٌّ يُرزَق بأوج عطائه (وأتمنى لك العمر المديد والعطاء المزيد)، إنّ تكريم الأحياء في حياتهم أبلغ منه بعد وفاتهم، لكنّ هذا هو العُرف الذي جرى بيننا حتى عبّر الشاعر الفخر الرازي عن ذلك بقوله: “المَرءُ ما دام حيّا يُستهانُ به ويَعْظَمُ الرُّزْءُ فيه حين يُفتَقَدُ”، ويأتي هذا التكريم للأحياء في حدّه الأدنى بالثناء العاطر والتوثيق، فالتوثيق هو أدنى مراتب التكريم، وإن كان عندي أعلاها، لأنّه هو الذي يبقى. مؤسساتُنا تُكرِّم مُبدعينا بعد أن يُكرّمهم التراب، فهنا احتفالية بذكرى رحيل فنان، وهناك تكريم لراحل ملأ الأرض والسماء شعرًا وجمالا وبياضًا، وهي بلا شك لفتات جميلة لمن أفنَوا حياتَهم في سبيل الفن والإبداع شعرا ونثرا، مسرحا وموسيقى، ولكن المُؤلم أن نحتفي بهم أمواتا بعد تهميشهم أحياء، وكما يقول المثل الجزائريّ: عندما كان حيّا كان يشتاق إلى حبة تمر، وعندما مات غرسوا نخلة جنب قبره!
نحن في نادي حيفا الثقافي وضعنا نصب أعيننا تكريم الأحياء، بعيدا عن المبالغات المقيتة، فالمبالغة ليست من عاداتنا وتقاليدنا وشيمنا، ولن نجعل من الحبّة قبّة، لأنّ عطاءَك بروفيسور سليمان هو المتكلم والشاهد والدليل. وبالمناسبة، أقمنا مُؤخّرًا موقعًا على شبكة التواصل الاجتماعيّ “الفيسبوك”، بعنوان “نادي حيفا الثقافي”، وبإمكانكُم تَتَبُّع نشاطاتنا عَبرَهُ، بما فيه صُوَر هذه الأمسية.
كلمة الاديب نايف خوري: الإخوة والأخوات، مساء الخير، وأتمنى لكم أمسية سعيدة ومفيدة وجديدة وحميدة ورغيدة، أنا بعرفش أكذب، هكذا اعتاد أبو جبران أن يقول في كل حديث معه، كي يبرر أنه يقول الحق والحقيقة حول أي موضوع مهما تكن نتائج كلماته، هو لا يحب المحاباة والمداهنة، ولا الخضوع والخنوع، ويحفظ كل ما يقال له، فيفتش في طيّات ذاكرته لعل ما سمعه كان خطأ أم صوابا، فإذا كان صوابا قال: هذا صحيح، وبرافو عليه، أمّا إذا كان خطأ، فلا بدّ أن يقول ذلك، دون الحاجة إلى فضيحة، بل يصحّح ويقوّم ويرشد ويوجّه، فهو أستاذ ومدرس ومعلم مِن لمّا الله خلقه.
أمسيتنا مع عاشق الشدياق، المفسّر للجواهري، المعجب بدرويش، المحبّ للغة والصدق والتواضع، لا يريدك أن تكون سيبويه ولا الخليل بن أحمد، لكن اعرف لغتك واستعملها كما ترى مناسبا، لأنها تخدمك خير خدمة. حكايته مع العاميّة حكاية تبدأ من رفض هذه التسمية لها، بل يريدها المحكيّة، وهي مليئة بالكلمات الفصيحة، فلمَ نتجاوز استعمالها ونغرق في الفصيحة، حتى نحتاج إلى ابن منظور ولسان العرب لنكتشف معاني كل كلمة. فهو يكتب بكل الأصناف والأساليب والألوان، وأصعبها ما نعرفه بالسهل الممتنع، أي أنّ كلّ واحد يظنّ أنّ بوسعه الكتابة بهذا الشكل، لكنه يفشل لصعوبة اختيار الكلمات. أبو جبران لا يكتب كي يتفلسف، ولا ليضع النظريّات، إنه يكتب ما يأتي على لسانه، وهذا يكون صحيحا. كلماته صادرة من القلب، ولذا تدخل القلوب كلها، فيفهمه الجميع ويحبّ كلماته، لا يحبّ التطويل والإسهاب والإطناب، ولا بد من تقديم الشكر والامتنان للمجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، والنادي الثقافيّ برئاسة المحامي فؤاد مفيد نقارة، على هذه المبادرة واللفتة الكريمة لمن يستحقها.
أبو جبران نحن نحبك وغيرنا كثيرون، وخاصة البقيعة، حيث ولدت وترعرعت وأمضيت مرحلة الصبا، يسرني أن أقدم الصديق الشاعر حسين فندي مهنا، شاعِرٌ وكاتِبٌ من فِلَسْطين. وُلِدَ في قَريَةِ البُقَيعةِ/ الجليل، لِأَبَوَينِ فَلّاحَينِ (ولا يَزالُ يَعيشُ فيها). تَخَرَّجَ من ثانوية الرّامَةِ، وعَمِلَ مُدَرِّسَاً لِلُّغَتَينِ العَرَبِيَّةِ والإنْجليزِيَّةِ في إعْدادِيَّةِ بَلَدِهِ البُقَيعَةِ. كَرَّسَ أَعْمالَهُ الأَدَبِيَّةَ لِلْوَطَنِ ولِلْمَرْأَةِ خاصَّةً، ولِلْحَياةِ ولِلْإِنْسانِ عامَّةً. له أَعْمال أَدَبِيَّةُ: بلغ عددها سبعة عشر كتابا، منها: وَطَني يَنْزِفُ حُبَّا، أَموتُ قابِضَا حَجَرا، عَوَض يَسْتَرِدُّ صَباهُ، لَيسَ في الحَقْلِ سَوسَنٌ لِلْفَرَح وغيرها، وسيحدّثنا عن البقيعة، لأنّ هذا يلقي الضوء على طفولة أستاذنا سليمان ونشأته.
أمّا الأستاذ مرزوق حلبي فهو صحفي وكاتب وشاعر وناقد ثقافيّ، له مئات المقالات المطوّلة والمُحكّمة في الدوريات باللغات العربيّة والعبريّة والإنجليزيّة. مستشار استراتيجيّ وإعلاميّ، وصاحب زاوية ثابتة في صحيفة الحياة في لندن، من كتاب رابطة العقلانيين العرب وموقعها باريس. عضو في “منتدى التفكير الإقليمي”ـ הפורום לחשיבה אזורית”. ركّز مشروعين متصلين باللغة العربيّة ومكانتها، وبالشعر الشبابيّ المحليّ في معهد فان لير في القدس. مُنسّق وموجّه مجموعة الفلسطينيّين للتفكير الاستراتيجيّ بالتعاون مع منظمة “أوسكفرورد ريسيرتش غروب”، ومحرّر في صحيفة الاتحاد في وظائف مختلفة، ومُحرّر دليل الهاتف بالعربيّة دبي زهاف. حاصل على لقب أول بالحقوق، ولقب ثانٍ في العلوم السياسيّة، أعدّ أطروحة الدكتوراه في موضوع التوتّر القائم بين الدولة القطريّة القوميّة، وبين سيرورة العولمةـ أثر ذلك على مفهوم السيادة والفكرة الديمقراطيّة. له تحت الطبع: كتاب (الشعر الأول)، وكتاب في التربية: (المدرسة كما روتها لي ابنتي). يعكف على إطلاق دار نشر باسم جدل بداية العام الجديد. يقول درّسني أبو جبران اللغة العربية من الصف الثامن حتى الثاني عشر، خمس سنوات كاملة. وإلى الآن يعتقد الناس أني خرّيج دراسات عليا بالعربيّة.
مداخلة الأستاذ مرزوق حلبي: صار ممكنا معك أن نقول “لغةَ أب” كما نقول “لغةَ أم”! ولأنني أحاذر دائما من الوقوعِ في فائضِ الكلام، فسأتحدث إليك لا عنك، ولأنك بالنسبة لي ذات وليس موضوعا، فسيكون كلامي رسالةً إليك وليس ديباجةً في مديحِك. ولأنك معلمي وصديقي وقُدوتي اللغوية، أراني، وإن تحدثتُ إليك، تحدثت إليّ. منذُ قُرابةِ الشهرين وأنا مشغول بما سأقوله لك هنا، أحسب كلماتي، أقيسها وأفصّلها على مقاسِك أنتَ لا أقلّ ولا أكثر ولا أزال مسكونا أيها الأستاذ بالسؤال: كيف جعلتَ موضوع اللغة العربية جنّة مفتوحة لنا لا قصيدةً عصيةً في الكتاب؟ وكيف يسّرت لنا درب الوصول إلى واحاتها وأفيائها دون أن تُدمينا معارج النحوِ والصرفِ!
كيف استطعت أن تخرج اللغة من الكتاب وتضعها كرغيف الخبز الشهي على طاولاتنا، فأحببنا الطعمَ إلى يومنا هذا؟ كيف استطعت أن تجعل من اللغة ومنّا أصدقاءَ أوفياء أنقياء؟ كيف استطعت أن تنزع اللغة من أسطورتها، ومن صورتها المتجهّمةِ وأحضرتها لنا بهذا البهاء وهذه الحيوية؟ كيف استطعت أن تخلّصها من ثقلِ ظلِّ عُشاقها الرديئين وأساتذتِها المتبجحين وتستدرجها إلى صفّنا على مدار خمس سنوات، فإذ بها واقعيةٌ، محسوسةٌ، ملموسةٌ، نمكثُ فيها وتمكث فينا براحة وانسجام؟ كيف استطعتَ أن تخدعنا إلى هذا الحدّ فإذ باللغة التي أهديتنا هي الحياة نفسُها. وهي نحن. وهي ما كنّا وما سنكون!
كان الكتاب حجةً ونصوصُه المنتقاةُ بعقلية الخبيرِ لا بنفسية التلاميذ، لكَ ولنا أنْ نخرج من حُدودِها إلى نُزهة أبعد منها، حدّ نسيان نقطة البداية. كنتَ تصحبُنا في رحلة غنية للقاء بشعراء ومُبدعين لا يأتي الكتاب على ذكرهم لأسباب اعتقدوا أننا لا نفهمها! كنّا نفهم إشاراتِك الضمنية وكلامَك دون أن تحكي ـ خمس سنوات من العِشرة كافية للتلميذ كي يفهم معلّمه من نظرة أو إيماءةٍ أو ابتسامة مواربة. لم نكن موزّعين على فئتين- أولئك الذين يعرفون وأولئك الذين لا يعرفون. بل كنّا جميعا نعرف كثيرا في اللغة، ومنّا مَن عرف أكثر!
أهديتنا المعرفةَ، والأهم، سُبلَ الوصلِ إليها. استطعتَ أن تنقلَ شغفك باللغة إلينا لتتحولّ طاقةُ اللغةِ الهائلة مع الوقت إلى طاقةِ حياة، وإلى مهارة التمييز بين الأصيل وبين شبيهِه، إلى قدرةٍ على النقد الحادّ وذائقة جمالية لا تُخطئ إلا فيما ندر. كنتَ من بين القوى اللطيفة التي كوّنتنا وشكّلت وَعينا المشاكسَ المُمسكَ بالسؤال. كان لك فضلُ تثبيتنا في مسار العلم والمعرفة وفي موضع عالٍ من الحياة، كنتَ لنا أبا لغويا وأبا بمعاني أخرى، صار ممكنا معك أن نقول “لغةَ أب” كما نقول “لغةَ أم”! ربّما اعتقدتَ بينك وبين نفسِك أنك تتمتع وحدك بامتياز النظر إلى ما صارَه تلاميذُك، تسأل في كل مرة نلتقي “أين وصلت”، و”ماذا تفعل هذه الأيام؟”.
لا، لم تكن وحدك هناك، كنتُ أنظر قبالتك إليك، إلى ما صاره أستاذي ومعلّمي. كنتُ أشعرُ أن لي حصّة فيما تفعله. امتلئ فخرا وكبرياء كلما قرأت اسمك مقرونا بخبر إصدار جديد. كنتُ أقرأ ما تكتبه بشغف، وكنتُ ألتقط الإشاراتِ أيضا. ومؤدّاها أن اللغةَ متحولةٌ متطورةٌ غير جامدة، لا تُطيق الحبس في متن القواميس، ولا الأسرَ في المباني المتقادمةِ الضيقةِ، وأن للأدبِ صوراً تولد وصورا تموت، وأن الشعرَ يبهتُ إذا طال مكوثُه في المقام ذاته، وأن الشعراءَ يموتون إذا أعجبتهم صورتهم في المرآة وارتاحوا في رحاب نصوصهم أطول مما ينبغي. تعلّمت منكَ أيها الأستاذ أن أكونَ في الكتابةِ عمومًا وفي المعرفةِ مُحدثاً ومُجددا، لا أرسو على برّ، ولا أستكين لزاوية فيء. أغادر النص الذي أبلغه إلى نص لم أكتبه بعد، من نصّ حسبتُه فتحًا إلى آخرَ أحسبُه.
علّمتني أن اللغةَ لا تحدّ،ُ وأن المعرفةَ لا تنتهي/ وكما في فضاء اللغة والإبداع كذلك في مساحة الحياةِ. أحني قامتي لك ولعطائك لي ولأبناء جيلين أو ثلاثة. شكرا لهذا العطاء، شكرا أنك معلّمي إلى الآن. شكرا أنك أهديتني العرفان. وأعدكَ أن أحفظ الوديعة.
العريف نايف خوري: إلى العمل الأكاديمي والأبحاث والدراسات التي سيلقي الضوء عليها الدكتور جريس نعيم خوري، من مواليد قرية طرعان؛ محاضر كبير في قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة تل أبيب والكلية العربية للتربية- حيفا. أنهى وظيفة الدكتوراه في جامعة تل أبيب بإشراف البروفسور سليمان جبران، موضوع الدراسة: المصادر الشعبية للشعر العربي الحديث. باحث أكاديميّ نشرت مقالاته في مجلات عالمية محكّمة متنوعة Journal of Arabic Literature، Journal of Semitic Studies، Journal of Oriental and African Studies، Arabica وغيرها، بالإضافة إلى مجلة الكرمل التي تصدر عن جامعة حيفا. كما صدر له عن مجمع اللغة العربية كتاب بعنوان: الفولكلور والغناء الشعبي الفلسطيني (2013). وهناك كتاب بالإنجليزية صودق على نشره في دار نشر مختصّة في ألمانيا، يبحث في تأثير ألف ليلة على الشعر الحديث. صدرت للباحث ثلاثة دواوين شعرية وهو يعدّ لإصدار الديوان الرابع. حصل على جائزة عميد جامعة تل أبيب للمحاضرين المتفوقين مرّتين كما حصل على جائزة الإبداع المحلّيّة. يسرني دعوة الدكتور جريس خوري.
مداخلة د. جريس خوري: أودّ في البداية شكر المنتدى الثقافي على هذه اللفتة الكريمة، التي إنّما تدلّل على الذوق الرفيع للقيّمين، في التعامل مع أدبنا المحليّ وأدبائنا، والحدب على الاحتفال بهم وإظهارهم للعيان. واحتفالنا اليوم ليس احتفالا عاديًا، لأنّه احتفال بشخصية غير عادية، شخصيةٍ قالت وفعلت، وكتبت فأبدعت، ودرست فأنارت، وعلّمت فنمت على يديها أجيال، بل لعلّي أقول أبناءُ مخلصون، حملوا عنها قصَب السبْق… بروفيسور سليمان جبران، وماذا أقول فيه؟ أستاذ موسوعيّ، جمع أطراف الأدب حتى اجتمع له من معارفه ما ندر أن يجتمع لأحد، يصول في ميدان الشعر الحديث، فإذا نهض من عراكه، انتفض في ساحة القديم، معرّجًا على اللغة بقواعدها وظواهرها وتصرّفاتها.
فإن تجاوزنا المعرفة إلى الشخص، رأينا وسط هذه العظمة المعرفية قلبا متواضعا، وفكرا وديعا، وإنسانا في منتهى الصفاء، منتهى الوضوح، منتهى الصراحة… تتلمذت على يده شخصا وفكرا، فصرت آتي البحثَ من حيث أتاه هو، فتكشّفت أمامي مغالقُ اللغة على مفاتيح النصّ. أتعامل مع البيئة وفقَ مثال شخصه، فأحكّم الموضوعية، وأطلب العلمَ ولا أدّعيه، وأضع كفّي على المحراث، فلا أنظر خلفي أبدًا… نعم أبي الحبيب، واسمح لي بشرف الأبوّة، فقد شعرتُها حقيقة طيلة السنوات الخمس عشرة الخالية التي التقيت فيها بشخصك، وبدأت من خلالها أتلمّس طريقي نحو عالم البحث الجِدّي الرصين. على امتداد السنوات الخمسَ عشرة قلت لي وألححت في القول: “أنا مرات بدبّ الكلمة دَبّ، وبِزعلو منّي كتار، وراسي يابس… ما تكون زيي، اليوم بنفعش هيك، اصحك!” وترفق النصيحة الصادقة بقهقهتك المميّزة… اعذرني والدي… فقد خنتُ نصيحتك هذه فقط، وغدوتُ حتى في يباسة الرأس والمراس مثلك تماما… اليس فرخُ البطّ عوّاما؟؟
وبعد، فرحتُ في تلقّي الدعوة من أستاذي ب. سليمان بتقديم الجانب الشعري من أعماله النقديّة، فهو شرف لي، وعبر هذه المداخلة، أحاول إلقاء الضوء على نزر يسير من أعماله لأن المكان والزمان المحدودين يضيقان عن حدود إنجازاته العظيمة. عليه سأكتفي بنقل صورة موجزة عن أعماله التالية:
*المبنى واللغة والأسلوب في شعر عبد الوهاب البياتي- دراسة أسلوبيّة. عكّا: مطبعة أبو رحمون، 1989.
*صلّ الفلا- دراسة في سيرة الجواهري وشعره. حيفا: مطبعة الشرق العربية، 1994.
*نظرة جديدة على الشعر الفلسطيني في عهد الانتداب. دار الهدى: كفر قرع، 2006.
بالإضافة إلى مقالاته التالية:
*”نظم كأنه نثر؛ التباس الحوار بين محمود درويش وقصيدة النثر”
*”مدخل لدراسة الشعر الفلسطيني في إسرائيل 1948 ـ 1967″
*عناصر كلاسيكية في شعر المهجر
1- المبنى واللغة والأسلوب في شعر عبد الوهاب البياتي: الكتاب في الأساس وظيفة الدكتوراة الخاصّة بالباحث ب. سليمان جبران، تحت إشراف البروفيسور ساسون سوميخ. فيه تناول تجربة عبد الوهاب البياتي الشعرية، على امتداد ربع قرن (1950-1975). في استعراضه لتلك التجربة، تناول الباحث بعض الظواهر الأسلوبية الخاصّة بشعر البياتي عامّة، وبكلّ ديوان على حدة، مع الوقوف على أهمّ التطورات في هذه التجربة. ففي ملائكة وشياطين (1950)- الرومانسية، مع التقصير في موضوع الحداثة والتجديد. أمّا في أباريق مهشّمة (1954)، فقد بدأ يقتحم التجديد بجرأة، من حيث التنويع في الإيقاع، والمرونة في التعامل معه ومع القافية. وبرز في المجموعة أسلوب الصور المجزأة، وتوظيف الرمز والمبنى الجدليّ القائم على الجمع بين الأضداد في النصّ: الأمل مقابل اليأس وغيرِها. ثمّ يتناول الباحث تطوير الشاعر في دواوينه التالية لتقنيات الرمز والقناع، من خلالهما يبعد النصّ عن التقريرية والخطابية التي ميزت معظم قصائده السابقة.
2- صلّ الفلا: أخذ اسم الكتاب من قصيدة للجواهري نفسه، والصلّ الأفعى التي تعيش في الصحارى بشكل خاصّ، والفلا القفار. الكتاب دراسة في سيرة الجواهري وشعره، يبدأ بترتيب أهمّ الأحداث والتحولات في حياة الجواهري وفق محور زمنيّ متسلسل يعرضُ من خلاله نشأته، ثقافته وأهمّ مواقفه وتوجّهاته والمؤثرات التي وجّهت حركته الشعريّة، بما فيها أهمّ الأحداث في حياة الجواهري والسياسة العراقية بشكل خاصّ، ثمّ يتناول مراحل شعره:
1. الرؤية التقليدية (وفيها يقلّد كبار شعراء العرب)؛
2. اضطراب الرؤية (اضطراب في شخصيته، ومواقفه، انعكس من خلال تناقض في فكره، ومعاييره، من ذلك خضوعه للقديم من ناحية وثورته وتجديده في بعض النواحي الأخرى)؛
3. الرؤية الثورية وفيها بان موقفه الوطنيّ بارزا، وتوجّهه اليساريّ، وكتب أهمّ قصائده التي أذاعت صيته. مع أنّ هناك من لاحظوا تناقضا بين شعره وموقفه ورأيه من ناحية وسلوكه الفرديّ من ناحية ثانية.
(قراءة الرسالة)
*نظرة جديدة على الشعر الفلسطيني في عهد الانتداب: يؤكد من خلاله أن الشعر الفلسطيني بمعناه الوطنيّ المميز لم يظهر قبل مطلع القرن العشرين، ثمّ يختصّ بدراسة شعر أربعة شعراء فلسطينيين ظهروا في عصر الانتداب: وديع البستاني، إبراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود، وعبد الكريم الكرمي (أبو سُلمى). اعتبر جبران وديع البستاني في طليعة شعراء فلسطين لأنه أول من تناول موضوعات وطنية تتعلق بقضية فلسطين، ومع ذلك تمّ تجاهله تجاهلا شبه تامّ. ثمّ قام ببيان مدى أهمية شعر طوقان وخصوصيتِه وتطورِه الفنيّ، واستلهامِه الحياةَ الشعبية. عبد الرحيم محمود قرَن حياتَه بشعره حين استُشهد في ساحات القتال، وهذا جعل النقاد يهتمون بشعره بشكل خاصّ اهتماما غير موضوعي في الغالب، وقد حاول جبران التعرض لشعره بشكل محايد، الوقوف على ضعفه إلى جانب مواطن القوّة فيه. الكرمي، لاحظ عنده تغلّب الغنائية التقريرية وبروز الإيقاع، مع رصانة اللغة والابتعاد عن الشعبية نحو رومانسية عاطفية.
*في أحد مقالاته يتحدث عن درويش وتقنياته في مجموعاته الشعرية المتأخرة في الدمج بين الشعر والنثر في النصّ الواحد، وبين الجملة التوقيعية والجملة المرسلة، دون أن تشعر بذلك أحيانا، ومن خلال اعتماد درويش الذكيّ على بعض الإيقاعات التي تشبه إيقاع الكلام العاديّ وفي رأسها المتقارب والمتدارك. وهي تقنية تجمع بين الحداثة بحريّتها المتناهية، وتمسّك درويش بموسيقى الشعر التقليدية، التي أخضعها لظروف الحداثة.
*”المصادر الكلاسيكية لشعراء المهجر” يدرس فيها بعض قصائد نسيب عريضة، بهدف التأكيد على التواصل الفكري والروحي لشعراء المهجر مع التراث الشرقين رغم الانقطاع الماديّ والجسديّ. يؤكّد جبران أنّ أغلب الرموز الموظفة في شعر عريضة هي رموز عربية وإسلامية، بل لعلّها فاقت الرموز المسيحية بكثير، ممّا قد يكون ردّ فعل مباشر على حالة النفي التي يحياها الشاعر وحاجته إلى تأكيد انتمائه لتراثه الشرقي الذي انقطع منه. ثمّ يخص جبران إلى ما يلي:
“لا بدّ لنا من الحيطة في تعميم الخواصّ الأسلوبيّة لشعر عريضة على نتاج شعراء الرابطة القلميّة كلّهم. إلا أنّ شعره يثير الشكوك، في أقلّ تقدير، حول التعميم الجارف في اعتبار المصادر المسيحيّة المصدر الأوّل والأهمّ في نتاج هؤلاء الشعراء. ولا شكّ أنّ بحوثا أخرى مشابهة قد توفّر الدليل الكافي لإعادة النظر في هذا التعميم الملتبِس”
*مقالاته هي إضافات جديدة لم يسبق إليها تنمّ عن رؤية ناقدة حادّة، ومراس طويل في حقل الأدب عامة والشعر خاصّة، أهل الباحث استنباط الظواهر الخاصّة، وملاحظة الصناعات الدقيقة التي قام بها الشاعر في جنبات نصّه، والتي يصعب على القارئ العاديّ أن يلحظها. يمتاز جبران بحضور البديهة دائما، وبقدرته الخاصة على الربط بين القديم والحديث، واستعادة شريط الأدب عبر تواريخه المتشعّبة، والربط بين ظواهره ربطا علميا متينا. جمعُه بين المعرفة اللغوية (وله كتاب في هذا المجال صر عن مجمع اللغة العربية)، والمعرفة الشعرية القديمة، والنثرية، والشعرية الحديثة، بالإضافة إلى حسّه الشعري والأدبيّ العامّ، صبغ أبحاثه بالصبغة العلميّة الأكاديمية التي لا تخلو من نقد انطباعيّ ذاتيّ، يؤكّد على أنّ النصّ ليس مجرّد آليّة لغويّة يلزم الوقوف على طريقة عملها ومركّباتها، إنّما هو فكر حيّ وإحساس نابضن وجب ألا نهمل الجانب الإنسانيّ فيه.

العريف نايف خوري: الجوانب الأدبية التي خاض غمارها أستاذنا أبو جبران عديدة، منها الشعريّة ومنها اللغويّة ومنها الأدبيّة، وتركت أعماله أثرًا ملحوظا لدى طلابه في الجامعة وفي مجالات الدراسات والأبحاث، أحد الباحثين في عالم الأدب، وطالب من طلاب أبي جبران هو الدكتور حسين حمزة. ولد حسين حمزة في قرية البعنة. التحق بالجامعة العبريّة وحصل على اللقب الأوّل والثاني في اللغة العربيّة فيها. كما حصل على الدكتوراه من جامعة تل أبيب عند الأستاذ سليمان جبران. يعمل محاضرًا في الكليّة الأكاديميّة العربيّة للتربية في حيفا. شارك في مؤتمرات علميّة محليّة ودوليّة، له مؤلفات صدرت بعنوان: معجم الموتيفات المركزيّة في شعر محمود درويش: إصدار مجمع اللغة العربية، حيفا. العين الثالثة، دراسات أدبيّة. منشورات النهضة الناصرة. مراوغة النص، دراسات في شعر محمود درويش. مكتبة كلّ شيء حيفا.
مداخلة د. حسين حمزة: تحدّث عن الكتابة النثريّة عند سليمان جبران، وقد شملت أهمّ كتبه: “كتاب الفارياق: مبناه وأسلوبه وسخريته”، جامعة تل أبيب، 1991. وفي هذا الكتاب يجمل سليمان جبران آراء الذين سبقوه في الفارياق، ويقف على أهمّ مزاياه معتمدًا أسلوب التحليل المقارن. ويرجّح أنّ الكتاب سيرة ذاتيّة، أو أوّل رواية في السيرة الذاتيّة، كما يرى إلى أنّ الفارياق أعظم مؤلّف ساخر عرفه الأدب العربيّ قديمه وحديثه. أمّا بالنسبة لأسلوبه في السجع فيرى أنّه يتكلّفه.
أمّا في كتابه “نقدات أدبيّة”، 2006 فيجمع الكتاب بين دفّتيه العديد من المقالات التي تتعلّق بالشدياق، ففي مقاله “كيف تحولت جزيرة مالطة إلى جزيرة المُلوط وصف مالطة في كتابين”، يصل إلى مقولة مفادها أنّه إذا تغير الجانر الأدبيّ تغيّر شكل الكتابة. لذلك، فالشدياق في كتابه الساق ساخر ،وفي الواسطة وظّف أسلوبه التقريريّ. لقد كان لاهتمام سليمان جبران بأدب السيرة الذاتيّة عند الشدياق دافع لأن يستقصي تطورات هذا الفنّ في الأدب العربيّ الحديث، لذلك نجده في مقالته “بناء الذاكرة في كتاب الأيّام”، يبدأ من العام إلى الخاص، يصف الظروف الخارجيّة المحيطة بالنصّ، ثمّ يناقش معظم آراء الباحثين الذين تناولوا الموضوع إمّا معارضًا أو معاضدًا أو متحفّظًا، وهذا منهج اختصّ به يعتمد الدراسة النصيّة في كثير من الأحيان شواهد لرأيه، ويعتبر الباحث الأيّام ردًّا سريعًا على جميع الأوساط المعادية، وضد البيئة الرجعيّة؛ فهو يحاسب بيئة طفولته. وذاكرة صاحب الأيّام انتقائية في المحاسبة.
أمّا في مقالة “الصعب والأصعب في رحلة فدوى طوقان”، فيجد أبو جبران الشبه بين طوقان وصاحب الأيام في الانتقام ومحاسبة البيئة المعادية، والقيود المفروضة في طفولة كلّ منهما، ويعتبر الجزء الثاني الرحلة الأصعب مصالحة مع جميع من تعرّض لها معارضًا.
أمّا في مقالته عن السيرة الذاتيّة لحنا أبو حنا، فيراها بريئة من المحاسبات، ويجعلها في ثلاثة محاور أساسيّة : المحور الوطنيّ، المحور الثاني محور توثيقيّ يوثّق حياة القرية الفلسطينيّة، والمحور الثالث هو المحور اللغويّ/ الأدبيّ فاللغة العربيّة “الشريفة” كما يسمّيها الشدياق غالية أيضًا على “أبو حنا”.
في كتابه الموسوعيّ “على هامش التجديد والتقييد في اللغة العربيّة المعاصرة، مجمع اللغة العربيّة، حيفا 2009، يقف أبو جبران ضد قداسة اللغة. وهي عنده لا عاجزة ولا معجزة، كما يدعو في كتابه إلى استعمال المحكي إذا كان فصيحًا، ويطالب بالتعامل مع اللغة من منطلق مواكبة العصر، لا منطلق التحنيط والقداسة ، والكتاب أشبه ما يكون بــ”تحويشة العمر”، ضمّنه ما آل إليه بحثه الحثيث في مصادر اللغة ومظانّها المختلفة. في كتابه المهمّ هذا، يقوم أبو جبران بتوصيف الداء مقدّمًا اقتراحات أصيلة، كما يدعو إلى أن يكون مجمع لغوي أعلى يتبع للجامعة العربيّة، من خلاله يلتزم الجميع في العالم العربيّ بقراراته.
نلاحظ أنّ حب أبي جبران للشدياق جعل كتاباته في مجملها تدور في فلكه، وفي رأينا أنّ الباحث بحث في السيرة الذاتية من هذا المنطلق. وشاهدنا في ذلك أنّه في كلّ مقالاته يحيل إلى كتاب الساق للشدياق، ليكون منطلَقًا أحيانا، أو مقارنًا أحيانًا أخرى. كما أنّ منهج أبي جبران بشكل عام شأن المناهج العلميّة يستقصي كلّ ما كتب حول الموضوع، ثمّ ينتقل من مرحلة بسط الآراء إلى مناقشتها مؤيّدًا أو مفنّدًا، ثم يبسط رأيه في أسلوب لا أبالغ إن استعرت قول من قال جاءت ألفاظه على قدر المعاني. وفي هذه العجالة التي يقتضيها المقام، أقول لأبي جبران أبت العربيّة إلا أن تكون دوحة وارفة الظلال يستظل بها كثر ويقطف منها كثيرون.
العريف نايف خوري: وضع البروفسور سليمان جبران العديد من المقالات التي تتراوح بين السرد القصصي والحديث العلمي، بين الرواية والمعلومة، تركنا اختيار قطعة أدبية من أعمال الأستاذ سليمان للأديبة رنا صبح من شفاعمرو. درست رنا الابتدائية والثانوية في شفاعمرو، حصلت على اللقب الأول بالتربية واللغة والأدب العربي من جامعة حيفا. واللقب الثاني باللغة العربية من جامعة حيفا لكن بتفوق. كما تحمل شهادة تعليم للغة العربية. عملت في حقل التدريس في ثانويات عدة، ومرشدة لوائية للغة العربية إلى جانب وظائف أخرى في لواء حيفا والشمال في الإرشاد والتفتيش للغة العربية، كما عملت مذيعة في صوت إسرائيل. وهي اليوم مديرة قسم المعارف في بلدية شفاعمرو. وحب اللغة العربية، تتشاطره مع أبي جبران. يسرني أن أدعو الأديبة رنا صبح. لتقرأ لنا مقطوعة من إبداع الأستاذ سليمان.
بصوت رنا صبح- ماذا سيقولون في القرية/ بروفيسور سليمان جبران: لست من يؤمن بالقضاء والقدر. وأنّ كلّ ما تراه العين مكتوب مُسْبقا على الجبين. مع ذلك تسوق الأيّام المرء أحيانا إلى أصقاع لم يقصدها، ومواقعَ لم تخطر له على بال. لا أحدَ منّا يعرف ما سيأتي به الغد. أنا مثلا كنت كلّ سنة أقدّم طلب انتقال إلى إحدى مدارس حيفا أو الكرمل لدخول الجامعة، فلا يتحقّق لي ذلك. لكنْ خدمتني الظروف أخيرا، ولم أتحمّل جميل أحد، فانتقلت إلى العمل معلّما في دالية الكرمل.
خدمتني المصاقَبات- اجتماع الشروط المواتية يعني- فانتقلت من حرفيش إلى التعليم في دالية الكرمل، والالتحاق بجامعة حيفا، قبل أن تغدو جامعة مستقلّة. “المعهد الأكاديمي” كان اسمها يومها، وكانت تابعة للجامعة العبريّة. بل كان معظم المحاضرين فيها يأتونها من القدس. يُلقون على طلابها محاضراتهم ثمّ يعودون في اليوم ذاته غالبا.
في آخر السنة الثانية، بعد ظهور نتائج الامتحانات كلّها، استدعاني رئيس قسم اللغة العربيّة إلى غرفته. لا بدّ لي هنا من القول إنّي لم أكن في الجامعة طالبا عاديّا. جئت الجامعة بعد سنوات من العمل في المدارس، وليالٍ كثيرة وطويلة من التحضير الجادّ لموادّ التعليم، والقراءة في المراجع، وفي كتب الأدب الكلاسيكي والحديث. بل كنت أطمح إلى أن أكون شاعرا. لم تكن موادّ التدريس، في اللغة بوجه خاصّ، غريبة عليّ. ولم أكن أتأخر عن أداء ما يُطلب منّا إذا كان جديدا عليّ. لذا كانت علاماتي، في اللغة بالذات، كاملة كلها. ولا غبرة يعني.
الأستاذ المذكور إسرائيليّ الجنسيّة، لكنّه كان ألمانيّا تماما: اسما وفكرا ومسلكا. لا يعرف من الحياة خارج الجامعة شيئا، ولا من الخطوط غير الخطّ المستقيم. جلست إليه في غرفته الصغيرة، فأخبرني أنّه يرغب في إلحاقي مُعيدا في قسم اللغة العربيّة في جامعة حيفا. فاجأني الرجل باقتراحه، لكنّي أجبته دونما تردّد أنّ عرْضه المذكور يسرّني طبعا، وأرجو أن أكون على قدْر توقّعاته. غاية طموحي كانت أن أعمل معلّما للغة العربيّة في مدرسة ثانويّة، قلت للدكتور الألماني. عرْضك مقبول طبعا، وأنا لك شاكر على مقترحك المذكور من كلّ قلبي. أرجو أن أكون على قدْر توقّعاتك.
بعد أيّام التقيت بالأستاذ الألماني، فبلّغني أنّهم في الجامعة لم يرضَوْا بتعيين طالب بعد السنة الثانية مُعيدا في القسم. تنهي السنة الثالثة أوّلا، ثمّ تبدأ العمل معيدا كما اتّفقنا، قال لي بثقة وهدوء. لم أشكّ في حرف من كلام الدكتور. عرفت الرجل لا يقول غيرَ ما يُضمر، فلماذا أشكّ في أقواله، فأفتّش عن أسباب خفيّة لهذا التأجيل. ننتظر سنة كما اقترح الأستاذ الألماني علينا. لعلّ في التأجيل نيل المأمول. قد يكون التأجيل المقترح لصالحنا آخر الأمر. ثمّ إنّ الدكتور الألماني لا يقول شيئا ويضمر غيره. الشكوك في أقواله ومواقفه عيب، وقلّة أدب أيضا. في آخر السنة الثالثة، بعد امتحانات السنة والامتحانات النهائية في العربيّة، كانت نتائجي خيرا مما توقّعت. جرت الرياح بما اشتهت السفن، بل خيرا مما اشتهتْ. وصلنا آخر محطّة، قلت في نفسي، والحظ خدمَنا هذه المرّة. لم يبقَ عليك سوى مقابلة الدكتور الألماني، لتعمل يا ابن البقيعة محاضرا في الجامعة !لكنّ الدكتور الألماني لم يستدعِني إليه، ولم أستطعْ سؤاله وجها لوجه. كانت جامعة حيفا يومها بناية واحدة طويلة لا غير. “البناية المتعدّدة الأغراض”، أطلقوا عليها. فكان الأستاذ إذا لمحني من بعيد في الممرّ الطويل يغيّر طريقه، فيختفي في إحدى الغرف الجانبيّة. فهمت أنّه يخجل من ملاقاتي، وقد وعدني بما لم يقدر على الوفاء به.
رأيت الدكتور الألماني يتهرّب من ملاقاتي والحديث إليّ. لا بدّ أنّ الأكمة تُخفي وراءها ما يخجل الأستاذ من البوح به إليّ. أكتبُ إليه رسالة، قلت في نفسي، فيُجيبني بما عنده. لن يخجل من الورق الأبيض إذا كتب لي مكنونات صدره. هكذا كتبت إليه رسالة أسأله فيها عمّا كان بيننا قبل سنة منِ اتّفاق. كان ردّه سريعا ومقتضبا. قال في رسالته إنّ الجامعة لا ترغب هذه السنة، لأسباب مادّيّة، في تعيينات جديدة. نصحني أيضا بالعمل في المدرسة الثانويّة التي كنت حدّثته عنها في جلستنا السابقة. لكنْ لماذا يغيّر الألماني طريقه لئلا نلتقي مواجهةً، إذا كان كلّ شيء كما ذكره لي ؟ ليس له من ذنب، ولا هو أساء إليّ. لعب الفار في عبّي. لكنّي لم أشكّ في الرواية التي كتبها إليّ. لا مجال إلى الشكّ في موقف الرجل وصدقه.
الشكوك كلّها والهواجس انجلتْ بعد أسابيع، ومن جهة لم أتوقّعْها قطّ. انضمّ في تلك السنة إلى التدريس في حيفا دكتور فرنسي أيضا. إسرائيلي هو أيضا، لكنّه أنهى دراسته في فرنسا، وعاد إلينا حاملا خبرة واسعة في الأدب الكلاسيكي، واستقامة أكاديميّة فرنسيّة خالصة. لم يجد الدكتور الألماني من يبوح إليه بما يُثقل صدره سوى ذلك الدكتور الشابّ، سليلِ الفكر الفرنسي الحرّ. أفضى إليه بكلّ ما جرى له مع سلطات الجامعة، وأراح ضميره المثقل بالأوزار.
ضمّ الدكتور الفرنسي حكايتي، كما سمعها من رئيس قسم العربيّة في حيفا، إلى حكايتين أخريين مشابهتين، لطالبين عربيين، ونشر ما جمعه في تقرير مُغفل، دونما توقيع يعني، في أسبوعيّة هعولام هزه/ هذا العالم المناهضة للسلطة، بعنوان: “جامعة يحكمها الشين بيت”. هناك فقط تعرّفنا حكايتنا بالتفصيل، فأدركنا الدلالة الخفيّة لسلوك الألماني، رئيس القسم. تماما مثل القصص البوليسيّة: لا تتكشف ملابسات أحداثها الأولى إلا حين نبلغ فصلها الأخير !
تبيّن لنا، من التقرير المذكور، أنّ الدكتور الألماني لم يقنع بالردّ الرسمي. قابل رئيس الجامعة الإداري، وكان شخصيّةً مبائيّة معروفة. بعد نقاش مطوّل أبلغه رئيس الجامعة أنّه لا يعرف الطالب المذكور، وأنّ المعارضة في الواقع مصدرُها المخابرات بالذات. ذهب فقابل رئيس الشين بيت في الشمال أيضا. كيف تعارضون تعيين المذكور مُعيدا في معهد أكاديمي، وهو معلّم في مدرسة ابتدائيّة تابعة لوزارة التربية، سأل الدكتور الألماني متحدّيا. صحيح، أجاب رئيس الشين بيت في الشمال. ليس للمذكور نشاط سياسي يُذكر. لكنّ أهله في القرية شيوعيّون كلّهم. ماذا سيقولون هناك في القرية إذا عمل المذكور في الجامعة؟
لست من يؤمن بالقضاء والقدر، كما أسلفت. لكن من يدري؟ أوصدوا في وجهنا أبواب الجامعة في حيفا، فانفتحت أمامنا أبواب تل أبيب، دونما جهد منّا أو معرفة. لكنْ تلك حكاية أخرى، لإطار آخر. لست من يؤمن بالقضاء والقدر. لكن من يدري؟!

آمال عوّاد رضوان

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة