البوكجة …

تاريخ النشر: 19/12/15 | 22:46

في كل عام ، كانت تقف سيارة شحن كبيرة عند مدخل المخيم , وتفرغ حمولة كبيرة من الامتعة الملفوفة ببطانية او شرشف يطلق عليها عمال الوكالة والحمّالين “بوكجة” بمعنى  “بقجة”  ، ولاحقا عرفنا ان باكيج كلمة انجليزية تعني حقيبة امتعة . وكانت نقابات بريطانيا واوروبا تجمع من السكان هناك على اختلاف اعمارهم ومناخات بلادهم وتقاليد مجتمعاتهم بما يزيد عن حاجتهم وحاجة اولادهم من الملابس ، ويرسلونها عبر وكالة الغوث للشعب الفلسطيني في مخيمات اللجوء والفقر .

يوم البوكجة  كان يوم فرح عارم في مخيم الدهيشة ، يوم السعادة الكبرى ، يوم اليانصيب القومي للاجئين ، ومهما حاول رب الاسرة التذاكي واختيار بوكجة افضل من اخرى الا ان الخبثاء كانوا يبوؤون بالفشل ، فانت لا يمكن ان تعرف مكنوناتها من خلال وزنها او لونها او حتى من خلال التلصص على طرف محتوياتها .

وكانت اشكال الناس تختلف في ذلك اليوم عن أي يوم اخر في السنة ، فترى صانع اخذية يلبس بدلة ، او ترى عامل النفايات يحمل مظلة ، وترى طفل يلبس قبعة لرجل طاعن في السن ، ولا يمكن ، ولا بأي شكل من الاشكال ان تفرّط الاسرة باية قطعة من محتويات البكجة حتى لو كانت لا تلزمها ، وانما تقوم بتبديلها مع اسرة اخرى بقياس اخر او قطعة اخرى . وحين تحصل اسرة على مايوهات سباحة او تنانير قصيرة كانت تتدبّر لبسها تحت الملابس الاخرى بغرض الحصول على الدفء ولكن لا ترميها ابدا .

امّا زوجة عمي فقد حصلت ذات يوم على بوكجة وكانت جميع محتوياتها من ربطات العنق !!!! ولكن جميع ابناء العائلة يعملون في ورشات البناء او عاطلين عن العمل ، وبعدما فشلت في اقناع اية عائلة اخرى بالتبديل ، فكّرت طويلا ثم قررت استخدام قماش ربطات العنق في عمل ملابس للاطفال او قطع قماش اخرى . امّا نحن فقد كنا من اصحاب الحظ الطيب ذلك اليوم لان امي كانت تملك ماكينة خياطة ، ولكنها كانت ظالمة جدا في المقاسات ، ولا اذكر يوما انني لبست قطعة ملابس ملائمة لحجمي الضئيل ، وانما كانت دايما تجبرنا على ارتداء ملابس اكبر نمرتين او ثلاثة ، وحين نسألها عن السبب تقول : بعد عام او عدة اعوام سوف تكبر أجسامكم وتنضجون ان شاء الله وحينها ستكون هذه الملابس مناسبة لكم . ولكن للاسف فان مخططات امي الاستراتيجية كانت دائما تفشل لاننا كنا نمزّق هذه الملابس وتهترئ من شدة الاستخدام قبل ان تأتي مرحلة النضوج لنمرتين او ثلاثة اخرى .

وكنا نشاهد بعضنا في شوارع المخيم ونحن سعداء ، وقد اختلفت اشكال السكان ، شيخ الجامع يلبس جاكيت اصفر ، وزوجة المختار تلبس قميص عليه صورة شاطئ بحر في ميامي , ورجل عجوز يلبس بنطال قصير لونه كاكي يبدو انه كان لحارس حديقة حيوانات في انجلترا ، او انسان غير متعلم يحصل على نظّارة للمطالعة ، ولكن الاسعد حظا بين الجميع كان الذي يحصل على جاكيت ، مهما كان لونه او حجمه او شكله ، لان الجاكيت من المقتنيات الرائعة التي تصلح لكل المواسم والفصول .

وفي حارتنا التي ترعرعنا بها ، تعلمنا فنون القتال وافضل السبل للبقاء ،كانت تدعى حارة السندكا في اشارة الى مركز توزيع المؤن على اللاجئين الفقراء ، ومن بعد عرفت ان سانديكا كلمة انجليزية تعني نقابة ، علمتنا حارة السندكا اشكال الحياة والمناكفات ، والمعارك الصغيرة علمتنا كيف نكره وكيف نحب ؟ متى نثق ومتى نشك ؟ اين نضع اقدامنا ومتى نستخدم ايدينا ؟

قسوة العيش في مخيم اللاجئين ، ليست كلها سلبيات ، ورغم شظف العيش والعازة ، والحرّ الشديد في الصيف والبرد الشديد في الشتاء ، فقد تعلمنا كيمياء العمر قبل ان نتعلم كيمياء جابر بن حيان، وتعملنا جدول المؤن قبل ان نتعلم جدول ماندليف ، وأكلنا ” الكف ” قبل ان نقرأ الكف ، وحساب المصروف اليومي قبل الجبر والرياضيات للخوارزمي … عشقنا الام قبل ان نقرأ مكسيم غوركي ، وحفظنا اشعار توفيق زياد قبل ان نعرف ناظم حكمت ، وزوجة الاب علمتنا ان نسخر من الرأي العام قبل ان نقرأ لبرنارد شو ….

ثم لاحقا وفي سنوات السجن عرفت ان هناك في مدينة بيت لحم اديب وروائي عظيم يدعى جبرا ابراهيم جبرا ، ولمّا قرأت قصصه الرائعة ومنها “البئر الاولى ” ورواية ” البحث عن وليد مسعود ” فخرت بانني عربي وصرت في كل مكان ارفع رأسي واقول ” انا عروبي الهوى والفؤاد “.

والمسيحيون ليسوا اقلية ، بل هم عرب اقحاح وان كانوا اقلية دينية ….. فهم ليسوا اقلية قومية ، في حين ان الكثير من المسلمين هم اقلية ثقافية والامثلة على ذلك كثيرة . من أين أعرف هذا ؟ من حارات المخيم .

وفي حارتي التي افاخر فيها اكثر من حارة نجيب محفوظ ، في حارتي اصول وأعراف ، ويتضح لي كلما تقدمت بالعمر ان حارتي كانت اهم من جامعة السوربون أو جامعة هارفارد وفيها من الالم ما هو اقوى من الام دوستوفسكي ، وفيها من اللذة ما هو اعظم من لذة زوربا اليوناني ، وفيها من الشعر ما هو ارق من اشعار طاغور وفيها من الرومانسية ما هو اوضح من قصة ” في بيتنا رجل ” لاحسان عبد القدوس .

واليوم بعد عشرات السنين ، كبرنا ، وعرفنا ان جيش الاحتلال والمخابرات الاسرائيلية يقتحمون المخيمات في الضفة الغربية كل ليلة ، وقد وصف الاحتلال مخيم الدهيشة قبل أيام انه عش الدبابير ، وأكاد أجزم انهم لا يفقهون معنى بوكجة ولا تأثيرها في نفسية السكان ، ولن يفهموا ذلك أبدا .

البوكجة ظلت قائمة في حياتنا ، لكننا لم نعد نستلمها من سيارة المؤن باب المخيم ،وانما نستلمها سياسيا وماليا من خلال المبعوث الامريكي ومبعوث الرباعية ورؤساء الحكومات ووزراء المالية . كنا فقراء واطفال مخيمات ننتظر البوكجة ، اما اليوم فالرئيس والتنظيمات ومنظمة التحرير والحكومات العربية والوزراء ومنظمة التحرير وحماس ، وكل الوطن العربي صاروا مثل اطفال الدهيشة ينتظرون بوكجتهم .

بوكجة سياسية ، وبوكجة أمنية ، وبوكجة حزبية وبوكجة منظمات غير حكومية وبوكجة اكاديمية وبوكجة فكرية . والاطفال الصغار صاروا قادة وأحزاب وجنرالات … ولا يزالون بانتظار البوكجة القادمة من الغرب . والله من وراء القصد
بقلم د. ناصر اللحام – معا

lham

تعليق واحد

  1. احيك على الصدق في الكتابه وعلى روعة التعبير ودقة التشبيه
    وكل بكجه وانتم بخير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة