ضيفان على صفحتـــي

تاريخ النشر: 02/07/13 | 0:56

أحاضر في أكاديمية القاسمي في باقة على طلاب الـ (إم إي دي) –المجاز في التربية (الماجستير).

وفي مواد الإثراء اللغوي والأدبي في التعليم والتعلم، أدرّس اللون الأدبي الجديد- القصة القصيرة جدًا، وكان أن أجريت لطلابي امتحانًا قبل أيام، ففوجئت بمستوى الإجابات المميز، وقد طلبت منهم ضمن الأسئلة أن يحللوا قصة قصيرة جدًا ما سبق أن اطلعوا عليها وذلك وفق المناهج والأبحاث التي درسوها.

حصلت على إجابات شافية، وتصبو لأن تكون وافية، فكنت وأنا "أصحح" طرِبًا مغتبطًا، فقررت أن أضع أمامكم اليوم إجابتين أدهشتاني، بل اسمحوا لي أن أصرح:

لدينا نواة نقدية ناضجة، وليتها تبسق!

لدينا من يكمل المشوار، ونرجو أن يكون أفضل!

إليكم القصة، ويعقبها تحليل الطالب محمد عبد زايد، وتحليل الطالبة عبير إغبارية :

…………………………………………………………………………………………….

بين البعد الفني في هذه القصة القصيرة جدًا، مبينًا من خلالها ميزات هذا اللون الأدبي المستجد!

إبراهيم الحجري (كاتب مغربي):

” حياة”:

ولد. صرخ. حبا. مشى. ضحك.

بكى. تعلم. شب. أجيز. تعطل. ناضل. سجن. ترشح. فاز. اغتنى. افتقر. صلى.

حج. ضعف. مرض. مات. دخل جهنم.

……………………………………………………………………

إجابة الطالب: محمد عبد زايد:

………………………………

يبدو واضحًا في القصة توظيف عناصر التكثيف والقِصَر والإيجاز والاقتصاد القولي على مستوى الدال والمدلول. ورغم أن كلمات النص لا تتعدى ثلاثًا وعشرين كلمة- ؛ إلا أن ذلك يجعلها أكثر اتساعًا، باعتمادها على عناصر الإيحاء والإيماض واقتضاب المعنى – عوضَ الإبانة والتصريح عن المقصود. وهذه الخصائص فيها التوسع والعمق على مستوى الدلالة- حيث تفتح التحليل الفلسفي على مصراعيه لفهم سلسلة تتابع هذا الأفعال المنثورة، ليأتي القارئ بعنديّاته الفكريّة وخلفياته الفلسفيّة،فيسقطها على نص "حياة" القصصي القصير جدًا، ويضع أصبعه على المنطلق الفكري والفلسفي للنص وفق قراءته الطوليّة الخاصة.

وقد كان لرتم الحياة السريع تمثيل على مستوى القول السردي؛ حيث لجأ القاص إلى سرد قصته بالأفعال، خالقًا وصفًا مركبًا، فقضم عناصر السرد لخلق تركيبتها النوعية ضمن نفَس درامي يخطو سريعًا. يستند الكاتب إبراهيم الحجري في تحبيك "حياته" إلى توظيف إيقاع سردي، وكثرة التعاقب في تسلسل الأحداث، وتتابع الحالات والأحوال. مما ولّد حركة سردية إيقاعية سريعة تستثمر طاقات الأفعال. وأرى أن تتابع الأفعال في النص المعطى وسم النص بالتوتر والإيحاء ونمّـى ديناميكيته مبتعدًا عن الجملة الاسمية الدالة على الثبات والديمومة وبطء الإيقاع الوصفي في مشهد يعيق نمو الأحداث. وقد أدى تجنب الوصف والرصد السردي والتطويل في تشبيك الأحداث وتمطيطها إلى تشويق القارئ المتلقي ودغدغته.

وما يميز هذا الجنس الوليد نهاياته المتنوعة التي لا يضبطها نسق واحد، وغالبًا ما تأتي واخزة، متوهجة ومثيرة للحيرة، ذات قفلة ذكية غير مباشرة. فنص "حياة"، وبعد أن بعثت الأفعال والعنوان فينا الحياة يصدمنا كاتبه بنهاية جهنمية ليزيد النّار لظًى، وليخطو النص سريعًا نحو الاشتعال قبل الانسحاب من الحكي القصصي، لتجتمع علينا نحن القراء ناران: نار جهنم وسعيرها واحتكاك الأفعال الناري السريع مع نبض الحياة.

ولعبت عناصر الـ ق. ق. جدًا مثل: طرافة اللقطة وخرْق المألوف والدهشة والمباغتة دورًا هامًا في النص، فبعد الضحك باغتنا البكاء، وبعد النضال سجن، وبعد الترشح فوز تبعه اغتناء. هذه الطرافة في اللقطة دحرت الرتابة والملل عن القارئ وكسرت أفق انتظاره وتوقعه. فالضحك أردفه بكاء، والحياة في العنوان آلت إلى موت وجهنّم، والاغتناء تبعه فقر؛ وهكذا لا يكاد القارئ يبتني لنفسه أفق توقّع حتى يسارع النص إلى هدمه مولّدًا لذة يعرفه القارئ المستمرئ.

والنص لا يخلو من عنصري المفارقة والسخرية باعتبارهما استراتيجيتيْن خطابيتين وظفتا الكشْف عن خبايا الذات. والحجري هنا عرض الواقع على طاولة سرد عريضة وامضة دون تخدير، فتتغيا مصارحة هذا الواقع بعيوبه عبر نموذج ونسخ بشرية تولد بيننا، وتحيا دون أن نستشعر عذاباتها، واستصراخاتها، فكانت هذه القصة ومضة متحررة أوصلت رسالة للقارئ تقول فيها إن الكتابة هي عنك وليست لك.

ولما كان أكثر ما يستند إليه الناقد في إشكالية هذا الجنس هو تماهيه شبه التام، في كثير من النماذج مع أنواع أدبية أخرى؛ فإننا نجد أنّ نص "حياة" فكرته غامضة غائمة تنثر الدلالات ليصطادها القارئ ضمن تلك المساحة النصية الضيقة، متنقلاً عبر طرق مزدحمة، فيتراءى له النثر عبر كوة صغيرة تضيء مدارات كاملة، تتجاوز هذا العالم الصغير، لتتوالى عندها القراءات على القراءات، الأمر الذي يذكرنا بالقصيدة النثرية ومرونة عبر نوعية.

وثنائية الموت والحياة والأفعال التي استوعبت مدار حياة إنسان رسمت نموذجًا لرحلة شقاء أبدية تعدت الحياة لتشتبك مع الآخرة في دار بوار لطالما عايشها ذاك الإنسان.

ومما لحظته أن الأفعال المستخدمة تعبر عما هو يومي وهامشي من قضايا وأحداث من ولادة وصراخ وتعليم وسجن وصلاة وحج. إلا إن اجتماع هذه الأفعال وتتابعها تثخن في إلغاز النص وترميزه متوسلة بعنصري التثغير والإضمار لترك المساحات الفارغة والثغرات، فلذلك يعتمد الكاتب الاقتصاد اللغوي ليوحي أكثر مما يفصح،حتى أن الكلمات، والنقاط- بالأخص توظّف للإيحاء بالاستعانة بملْمَحَي البياض والفراغ. فالنقاط مثلت ذاك الانتقال السريع في عصر سرعة متقلب غير متوقع، ولاشك أن عنصرًا كهذا يستوجب قارئاً ذا مواصفات خاصة، هو ذاك القارئ الذكي القادر على ملء الفراغات البيضاء واستحضار خياله ومخيلته في الـ ق.ق.جدًا، فيفتح عليه باب التفاعل الإيجابي الذي يتعمّده ُمبْدِعوها معها، من خلال هذه الومضات التخييلية الدرامية المحتاجة إلى تأويل وتفسير واستنتاج واستنباط؛ فيتحول النص التفاعلي هذا إلى قراءات "جمع" عديدة.

في أحيانٍ كثيرةٍ، يلتقينا تناصّ هذه النصوص القصيرة جدًا مع مدوَّنات شعرية وسردية، عربية وغير عربية، قديمة وحديثة، حتى أنني ألمس رائحة تناص مع القرآن الكريم من خلال مقابلات الحياة والموت، والضحك والبكاء.

العنوان في قصة "حياة" القصيرة جدا يرتبط ارتباطًا أرثوذكسيًا مع الحبكة والنهاية، ولاينفك عنها، فقد اختار الحجري العنوان الذي يحفظ للخاتمة صدْمَتها. والمعنى منـزاح فيها، فتشعر أنك أمام دمى الماتريوشكا- الدمى الروسية- ،حيث تتناقص المعاني أمام ناظريك حتى تصل المعنى المنضوي في داخلها.

الحبكة تستدعي قارئًا حذقًا ليمسك بتلابيبها داخل مساحة نصيّة ضيقة، وخصوصية في الأسلوب واللغة- تزيد مهمة المقاربة صعوبة وتشابكًا وجهدًا.

إذا، وللإجمال؛ فإن تقانات خاصة تتوسل بها القصة القصيرة جدًا للتعبير عن الذات والمجتمع وأشياء الوجود عامة، وهذا ما رأيناه في نص "حياة المعطى".

وجدت أن ما يميز القصة القصيرة جدًا غائيتها ومعيار تداولها.وقد حرص سفيرها هنا في نصه "حياة"- إبراهيم الحجري- على إيصال رسائل مشفرة مشحونة بالانتقادات الكاريكاتورية الساخرة الطافحة بالواقعية الدرامية المتأزمة إلى الإنسان العربي ومجتمعه الذي يعج بالتناقضات والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي، وقد أثخنته الحروب على جميع الأصعدة، وحطمته العولمة التي تنظر إليه كمعطى دون روح. كما أن خصائص الـ ق.ق. جدا الدلالية تترك القارئ مشدوهًا مدهوشًا حائرًا أمام شاعرية النص الموجز المختزل، محاولا فك طلاسمه واجتياز فراديسه الغنّاء في طريقه لتصوير ذاته وكينونتها وعراكها الأبدي مع الواقع المتردي.

……………………………………………………………………..

إجابة الطالبة عبير إغبارية:

…………………………..

القصة القصيرة جدًا هي صيغة سردية حديثة في السرد، حيث يمكن من خلالها السرد بأقل عدد من الكلمات والموحيات والدلالات، وباستعمال التركيز والتكثيف، فالسرد القصير يحظى بالاهتمام والمدارسة في حين أن الإبداع هو في التعامل مع عقدة النظرية السردية ذاتها، ثم تصبو إلى تغييبها والانطلاق في الخيال.

فما يميز قصة "حياة"- هو بأنها تتطابق مع مميزات القصة القصيرة جدًا- من حيث قصر القصة والتي لا تتجاوز كلماتها سطرًا واحدًا حين جمعها وضمها لبعضها البعض، وبالرغم من ذلك نرى الحياة الديناميكية ضمن هذه الأفعال التي تحمل في طياتها عقودًا من الزمن وأفعالا جمة، واستطاع الكاتب أن يطرق باب الخيال مفتوحًا لكل قارئ كي يملأ الفجوات التي تتبع الصرخة مرورًا بمراحل الحياة وصولا إلى الشيخوخة المتمثلة بالضعف، وثمة ألم وحزن ودموع، وهذا كله مصوغ أحداثًا باستخدام الأفعال الماضية مثل:"مات وبكى"، فلكل كلمة إشارتها إلى وقوع تقدم في الحدث وتطوّر، إنها ترصد لحظة التغيير، ولا تعنى بالجزئيات من أبعاد وصفيّة ومسبّبات، الحدث يقدَّم وهو في لحظة توثّبه من حالة إلى حالة، فهذه الكلمات القليلة تحيل إلى مرجعية إيحائية.

كذلك فإن التكثيف في الحدث والفعل والموقف يفترض بحضوره عددًا من العناصر والتقنيات على مستوى اللغة في التركيب والمفردة والجملة، أيضًا على مستوى الموضوع القصصي، وطريقة اختيار الفكرة والمحافظة على حرارة الموضوع، والقبض على نبض الحدث وهو في حالة توهج وانبثاق، إضافة إلى ما يتطلبه من رفض للشرح والسببية والتعليل، ودعوة إلى عدم تشتيت الحدث، فالمحافظة على قصصية الجملة هي من أهم مهام التكثيف. "مثال- استخدم القاص واحدًا وعشرين فعلا في القصة". فظهرت حركية الأفعال في السرد مثل: "صرخ، بكى، ضحك ومشى…" إذ أنها وردت في الزمن الماضي.

اهتم "إبراهيم الحجري" ببناء القصة في لحظة تشكّلها قبل بناء القطعة، فهو مجلى العناصر ومرآتها التي تزيدها خصبًا وبعدًا، وهو يؤدي إلى بنا متماسك يصير حذف الكلمة فيه مشكلة، وهذا ما قاد القاص بأن يحسن استعماله إلى إيقاع لاهث سريع يثير كثـيرًا من الإعجاب القصصي. "مثل: حبا، مشى، بكى، اغتنى".

البداية والقفلة في القصة القصيرة جدًا- البداية تعني افتتاح للنص حيث باتت افتتاحية القصة على حساب أحداث واقعية، فهي جاذبة للمتلقي موظفة بحيث تخدم عموم القصة، وهذا يتطلب خصوصية في انتقاء المفردة أو الجملة لتساهم مع سواها في تشكيل إيقاع القصة بعامة، مثل: ولد، صرخ، حبا، مشى، ضحك. إذ أن هذه العتبة واقعية في حدوثها تتمثل في الإمساك بالمتلقي وشدّه، إذ يروي "إبراهيم الحجري" كلمة "ولد"، وهي تشير إلى الخروج إلى الحياة والانطلاق، فيتبعها الفعل "صرخ" وذلك لما سيلقاه الولد من متاعب في الحياة، "حبا ومشى" دلالة على أنه آخذ في الكبر والتقدم بخطوات. فيمكن لهذه البداية أن تكتسب مداليل جديدة مقارنة مع الخاتمة.

أما عن القفلة فهي خاتمة مفتاحية، أعني بها ختام أحداث القصة ظاهريًا لتفتح باب التحليل والتأويل والمساءلة، فهي دافع للسؤال ومضيف لمعان جديدة. فالبداية والقفلة في هذا النموذج يتصفان بشيء من السحر والجاذبية حيث تساهم القفلة مساهمة أكيدة في تحقيق الإدهاش الناتج عن إتمام المفارقة أو المفاجأة.

وحدة الموضوع والفكر في القصة باتت ناجعة وناجحة بثمرة القناعة التي تتحول إلى وحدة فعل يقوم بتجسيدها على أرض الواقع، ويبعث على البحث عن وسائل أكثر جدوى للتأثير في أعماق الروح، "مثل: ولادة وصراخ وتعليم وسجن وصلاة وحج".

عنصر القصصيّة في قصة "حياة" يقدم الصراع وهو في لحظة ذروة تصعيده، مع إشارات تلميحيّة تحمل في طياتها الكوامن الباعثة في لهذا التصعيد، وكيف وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه. فمن هنا فهي معينة بتكنيك إيحائي، لغوي، درامي، يفرض على عناصرها واجبًا مشتركًا ذا حدّين، حدّه الأول المحافظة على الروح والاشتعال والتوهّج، وحده الآخر تقديم هذا التوهج بكلمات قليلة بحيث إن لكل كلمة بوحها الخاص المنسجم بالوقت نفسه مع الكلمات الأخريات. فالحبكة تستدعي قارئـًا حذقًا ليمسك بتلابيبها داخل مساحة نصيّة ضيقة، وخصوصية في الأسلوب واللغة تزيد مهمة المقاربة صعوبة وتشابكًا وجهدًا.

يتبع ذلك عنصر المفاجأة الصادمة التي تصل حد الإثارة وتحفيز مخيلة القارئ وهواجسه تجاه ما يقرأ ويتفاعل معه وينفعل به. فمن خلال هذا النموذج بدا واضحًا أن "إبراهيم الحجري" اختار السرد بالأفعال التي تخلق وصفًا مركبًا ضمن نفس درامي يخطو سريعًا لذاك الاشتعال في آخر انسحاب الحكي إلى أن وصل الموت والنهاية "مثل: ضعف، مرض، مات". بالإضافة إلى أنه يمكن المزج بين الفكر والشعور "مثل: بكى، سجن، مرض" فهذه الأفعال نستشعر بها بالحزن، كما اختتمت القصة مع التراجيديا التي تدفع إلى الـأمل في التحولات والمصير "مثل: مرض، مات، دخل جهنم."

من خلال الطرح السابق يتبين أن الكاتب حافظ على مجموع عناصر القصة القصيرة جدًا من خلال تطرقه وملامسته إلى عناصر عدة ومنها-

– القصر- فالقصة قصيرة جدا أي الحجم الكتابي نفسه قصير، حيث أن هذه المنهجية تستدعي الدقة لدى كاتب القصة القصيرة جدًا.

– استخدام المفارقة في العنوان، "الحياة" وفي نهاية القصة ظهرت كلمة "الموت".

– كثرت الأفعال- استخدام أفعال حركية درامية متواترة تروي الكثير .

– التكثيف- جو قصصي مكثف بالمعنى، تكثيف في أكثر من لقطة وأكثر قصرا من شريحة.

– السرد- سرد الأفعال يشير إلى تحديد العمر وحركة الولد. فالسرد كان مفعمًا بالعواطف المتباينة التي سرعان ما يشارك المتلقي إزاءها بموقف.

– عنصر المفاجأة- في نهاية القصة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة