هروب المكنسة من الغبار

تاريخ النشر: 01/11/15 | 7:50

أفكر دوما في البحث عن صيغ تتيح لي السفر إلى الفكر قبل الأرض، ولو أمكنني لركبت طيارة نفاثة في سبيل الوصول إلى حكمة تنتفني نتشا من رقبتي، حتى تتضح زغب الأصلع، غير أنني لا أملك أرضاً تحلق في مساحتها الشاسعة الفراشات، لأدرك معاني الحرية بمنطق القياسات الجغرافية بعيدة السيقان جرياً وراء امتلاك الأراضي في انتظار الترخيص لشراء بُقعٍ في أمكنة الفكر إن أمكن، وذلك أضعف الأيمان، وليس لي غير الاذعان.
في كل مرة أحلم، وأحلامي تقودني قسرا، وكرها، إلى فضاءات أرحب من مخيلتي، فأفيق خاوي الجراب على سرير يقيدني نوما، وليس لي غير هذا الحيز من الجغرافية كي أنتفض مثل ديك صرعته ذبحة لص مختال فخور، وأجبر نفسي على مقاومة لذة الحلم في انتظار سلطة اليقظة، التي تتمنع علي في الحرية، غير أن حرّيتي على قَدْرِ خطواتي، قصيرة المدى، عديمة الركض في الغبراء، محدودة بين مد الصباح وجزر المساء، وما بينهما أمواج عاتية تتقاذف أشرعة حريتي، ولا أملك لجيبي شروى نقير، للنيل من سلع الحريات المبثوثة في مستنقع الوهم، بعضا من حروفها المنثورة هباء في مشتل الديموقراطية مجتازا.
بيد أنني، أحس في بعض الأحايين أني أنتهك حُرِّيات الآخرين فقط لأني أمتلك سكة مالية تجعلني أشتري ما لم يستطعه غيري، وأرد لجيبي نقودا تهينني أمام شهواتي العاتية، ليشقى من تبقّى بهامش ضيق اليد، لا يُسعفُه مَشْياً في أرض الله، فبالأحرى سكناً؛ أنا لا أملك حتى الرصيف الذي يأخذني وآخذه في مسافة لا تتجاوز العمل والدار وسوق البلد ما لم يصِبْه انحرافٌ فيتجه إلى ما تمليه النفس من سُبُلٍ أمَّارة بالفن.
لا أملك من هذا الرصيف- الملك المشترك- غير ما أضعه في خطوتاي، وما خلا ذلك احتلال شامل من طرف أصحاب المحلات التجارية التي تمد أرجلها لعرقلة المارة، واحتلال من أصحاب الدور الآيلة للجمال، التي تنبت في الرصيف فطرا، عمدا باسم تجميل المجال الحضري والمساهمة في نشر ثقافة البيئة، وهو مكر يتم بالإنبات القسري، أو الطوعي، لتهريب الراجلين إلى ساحة الوغى، نزولا عند أساطيل السيارات التي إن لم تقف لها احتراما قطعتك قطعا، يحدث هذا، في غياب الردع الأخلاقي قبل القانوني، ولا حياة لمن تناجي.
لذلك أفكر في الحرية.
ليست الحُرَّية أن أُكَبِّرَ مساحة باب بيتي على حساب الملك العام، لكي أنفخ ريشي مثل طاووس عانس، وأمني النفس والعين بأنني محافظ على البيئة والناس.
ليست الحرية أن أملأ بطني لأبتلع حِصَّة كل البطون الصغيرة حتى أصير بحجم منطاد يطير شبعاً ليُلوِّث البيئة كلَّما تجشَّأ أو ضرط بالغازات المسيلة للأنوف.
ليست الحرية مني بشيء، وهي منا براء.
لذلك أفكر في الحرية.
الحرية أن أتقاسم الطريق والرصيف والأمكنة العامة – إن وجدت- مع البشر والشجر والحيوان وقطع الحديد التي تقلنا إلى حيث ممشانا.
الحُرِّية أن أتقاسم لذة العيش الكريم مع من يُكابد ألمها شظفاً لأستشعر لذَّةً أكبر، وأن لا أُنَشِّف ريق الفقراء، بأنْ أجَفِّف كل منابع الثروات في البلد، مُدَّعياً وأنا أزيد السُّم في الحُقنة ضغْطاً، أن الأزمة إبرة وصلت للعظم في العالم، حتى صار كل همِّ السواد الأعظم، والأبكم، والأكمه من الناس، هو تحويل الكتلة ما فوق الأعناق، من أداة تفكير في العلوم الانسانية والآداب إلى قُفَّة بأذنين.
لذلك افكر في الحرية.
الحرية لمن يحب بيته مثلما يحب الشارع، وأغلبنا يقذف أزباله من أمام باب داره ليتركها عرضة لخطوات وأنوف الأخرين.
الحرية لمن يحب نفسه مثلما يحب جاره، وهذا عنا بعيد.
الحرية أن تذوب الخلافات اليومية والوجودية في سبيل تطويع القيم الانسانية لتصبح ناموسا كونيا يحمينا منا، قبل الأخرين.
لذلك أفكر في الحرية.
الحُرِّية لمن يعشق شارعه نظيفاً، ليست في كم موزة أُعرِّيها أمام الملأ ليقع أحدهم في قشورها وترسله حُطاماً و ليس غراماً إلى أقرب مستشفى.
ليست الحُرية خرقاً للقانون يجعلني أُشهِر عدائي خنجراً لأعترض سبيل الناس؛ أو حَرْقاً لشجرة لم يَصِلْها من الحب ماءٌ فصارت حطباً؛ أو رمياً للسُكان برصاص النفايات التي ليس أقبح من مشهدها إعداماً.
الحرية أن أجعل كل ما أسكُنُه يسْكُنُني في قلبي، لأكون به أو يكون بي نظيفاً دون أن تتدخل مِكنسة البلَدِيّة فُرشاةً بين أسناني.
لذلك أفكر في الحرية.
ليست الحرية منا بشيء،
ليست الحرية أن ننتزع الحب من الحضارة على حساب الإنسانية.
ليست الحرية أن ندعي التنوع الثقافي، وشعارات التسامح، ولافتات الانتماء إلى بعضنا، وأبواق السلام التي أدمنت معاقرة التماطل.
ليست الحرية أن نستل سيف الحب من امرأة كُرهاً؛ وأن نبالغ في اغراقها بالمساحيق في زينتنا لئلا يصبح الجمال قُبْحاً؛ وأنْ نذرَّ الرماد في العيون ونغفل أن بعض الرماد يكتنف جِماراً نائمة قد تشبُّ فينا بالحريق جميعاً ؛ وأن نزيد في يومنا ساعة وننسى أن تسْريع حركة الحياة يُقصِّر من أعمارنا.
لذلك أفكر في الحرية.
الحرية أن أعمل على توقيف الغبار حتى لا يعمي القلوب قبل العيون، التي بقيت مفتوحة تراقب بواحدة وتنام بالأخرى.
الحرية أن أسبق النهر في جريانه لأوقف صحراء تزحف بقبائلها على العقول، أن أضاهي البحر في هيجانه لأكسر صخرة تحجب الأفق، وأن لا أدعي بأنني فريد زمانه، ووحيد قرنه، وما دوني هراء.
لذلك أفكر طوعا في الحرية.
الحرية أن أنهض باكراً في أفكار الناس دون خشية من شمس تُعاتبني على البزوغ قبْلَها لاحتكار سماء هي نعمة من الله للجميع وليست سوقاً للنخاسة، تباع فيه الأوطان والهويات مثلما تباع سلع فاسدة، عف عنها الزمن.
لذلك تقيدني الحرية.
الحرية أن لا أقيّدَ أفكاري في ورق إلى جانب أرقام الديون التي تُقيِّدني؛ بل أن أكتب ما أريد ساعة أريد في أي مكان أريد دون أن أسمع من أحد ما لا أريد حين يضيع كل شيء، وأنا أراقب من زاوية الوطن هروب المكنسة من الغبار.

سعيد العفاسي، كاتب مغربي مقيم بكفرقرع

s3edal3fase

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة