مفاتيح لـ "سرّ الحبق"

تاريخ النشر: 18/06/13 | 10:00

"مداخلة نقدية في المجموعة الجديدة للشاعر راضي مشيلح" قبل أن نخوض في نصوص المجموعة الجديدة للشاعر راضي مشيلح، "سرّ الحبق"، أشير إلى المفاتيح اللازمة لتداول النص الشعري. وهي غير واضحة في رأيي، وغيرُ معمولٍ بها على الغالب ضمنَ الخطاب النقدي المتداول عندنا.

السؤال الأساس الذي ينبغي أن يُسأل بعد أن اعتبرنا النص شعرا هو عن مدى جمالية النصّ أو فنّيته. ومصطلح "الجمالية" ليس هُلاميا أو مُبهما ولا هو طلسم. لا في الشعر ولا في الأدب عموما ولا في الفنون التشكيلية الأخرى. ثمّةَ قواعد لهذه اللعبة وثمةَ معايير تضع الحدّ بين ما هو أدب أو أقلّ أدبا أو ليس أدبا على الإطلاق. بين ما هو شعر وبين ما هو كلام مصفوف مثل السمك المسموم على رصيف الميناء! وإلا ما كان يُمكن تدريس الفنون على أنواعها أو الكتابة الإبداعية على وجه التحديد.

أقول هذا لأشطب منذ البداية مَا يُشاع من حديث عن الأذواق في هذا الباب تحديدا.

"الجمالية" الشعرية في حالنا تتأسّس على واحدة من المكوّنات التالية أو على اجتماع بعضها أو كلّها.

على الإيحاء والموارَبة أكثر منه على المُباشرة.

على الاستعارة والمجاز أكثر منه على الكلام المألوف الجامد.

على إحداث المفارقة والدهشة في توليد المعاني لا على المتوقّع والمكرور.

على بساطة التعبير وخفّته لا على الإنشاء الثقيل والخَطابة.

على إبداع الصورة الجديدة الخلّاقة لا على مباني وتداعيات مألوفة متهلهلة.

ومن العوامل التي تساعد على إقامةِ العلاقة الحميمة بين النص والمتلقي هو أن يتضمن النصُّ فكرةً مُشرقةً تتجلّى فيها ألمعية الكاتب أو الشاعر!

وقد يكون مبعثُ الحميمية موقفٌ شجاعٌ أو جرأة نادرة لدى الشاعرِ في اقتحام آفاق جديدة ومناطق محميّة بالتقاليد أو بالدين أو بالسياسة أو بغيرهما.

وقد يكون الانحياز للنص وتذوّقه نصّا فنيّا راقيًا هو تلك المعرفة المباشرة بالشاعر، وإن حصلَ العكسُ، أيضا. وقد يكون التماثلُ أو التواصلُ مع النص والشاعر نابعين من كون النصّ عن مكان ما مشترك بين الشاعر والمتلقي ـ عن دالية الكرمل مثلا ـ عن قضية أو مناسبة أو مسألة مشتركة.

كل ما ذكرته قد لا يكون كافيا لنضوج النص جماليا. ثمة حاجة ماسة إلى فنية وحِرفية عالية في استعمال هذه المكوّنات وفي تقديمها للمتلقّي كي يولدُ سحرٍ هو الذي يجعل من الأدب أدبا. سحر لا يُمكن تعريفُه أو الإمساكُ به!

هذه هي الأحكام الجمالية التي أنطلق منها في نقد مجموعة "سرّ الحبق" للشاعر راضي مشيلح.

ولنأخذ المقولة الأخيرة عن السحرِ الذي في الأدب ـ فالسحرُ يمرّ كخيطٍ من نجومٍ في نصوصِ المجموعةِ الجديدة. كلامٌ بسيط بسيط يترك سحرَه في القارئ دون أن يكون الأخيرُ قادرًا على تعريفِه أكثر من الشعورِ به. ليس صدفةً أن يكونَ الأمرُ على هذا النحو ـ لأن مكوّنات جمالية كثيرة تتضمنها القصائد وإن كان بتفاوت.

في قصيدة "نجوم الفرح" مثلا أو : "عَ الريق" أو "كوني حلم" أو "سفرة عُمر" ـ هناك الصورُ المتراكضة بخفّةِ الغُزلان في مرج. هناك الاستعارةُ والمجازُ اللذان يكثران بطبيعة الحال في الشعر المحكي لأن اللغة المحكية مواربة في كثير من المواضيع خاصة تلك المتروكة خلف الأبواب لا سيما العشق ومتاهاتُه والجسدُ ونداءاتُه.

كل قصائد راضي في مثل هذه القضايا مواربة، ترميزية وضبابية تهبّ على المتلقي كنسيم أو كرائحة وردة جورية جرحت يد الشاعر أو القصيدة. في قصيدة "عُمرين" مثلا أو "مكتوب الصبح" و"موسم الرمان".

لكل قصائد راضي إيقاعات خفيفة أو أوزان يُمكن تسميتها بالأسم. والملاحظ، أنه قلّما تجد توترا بين النصّ وبين إيقاعه أو موسيقاه. فلا شيء في النص يحصل بإكراه ولا مُفردات حاضرة غصبا عن إرادتها.

هذا بالتحديد سرّ الحبق وسرّ الانسيابية والغنائية في المجموعة. وهي انسيابية غائبة عن مُعظم ما نقرأه من شعر باللغة المعيارية الفُصحى منشورا على طول الوقت وعرضه.

يُخيّل لي أحيانا أن سرّ شعرِ راضي في بساطته. في يُسره المُستعصي. وهي بساطة قائمة رغم الجديد في الاستعارات والمجاز. فماذا يُمكن أن نفهم من "طفل النخل" مثلا! تعبيرٌ مفتوحٌ على تأويلاتٍ عديدة. يُمكننا أن نشرّق ونغرّب في تحديد المدلول لكن التعبير يظلّ بسيطا بسيطا لا يقبل الابتذال. خاصة أن النصَّ الذي أعقب هذا العنوان شديد البساطة كثيفُ الدلالات.

يأخذنا هذا النص القصير البالغ الدلالات إلى حزمة إشراق في تجربة راضي الشعرية وهي تلك النزعة الإنسانية الجريئة في مقولتها. موتيف دائم الحضور في نصوص راضي الذي يشعر بآلام الناس وينحاز للمظلومين دائما ويذود عن الضعفاء ولا يدير للعالم ظهره. موتيف يقرّب النصوص والشاعر من جمهوره ويصنف شعر راضي مع الخير!

تنسحب البساطة على المواضيع التي يطرق راضي أبوابَها ضيفا خفيفَ الظلّ. فإذ بها تلك الشؤون اليومية والمألوفة. وأظنّه يبتعد عمدا عن القضايا التي صُنفت في النصوص باللغة المعيارية على أنها "كبيرة" أو مشحونة سياسيا مثل "فلسطين" والقدس" و"الجليل" و"الزيتون" و"القضية" و"الوطن" وما أدراك من بطاقات دخول مزوّرة إلى حفلة الشعر. قضايا اتكأ عليها البعض كي يظهروا عزف عنها راضي ليخوض في الشؤون اليومية آخذا إياها وإيانا إلى رحاب الشعر والشاعرية دون تكلّف ودون أن يحصل من أحد على تأشيرة أو صك غفران وطني أو ما أشبه! كأنه يقول دون أن يُفصح أن الشعرَ ممكنٌ والشاعرية ممكنة دون كلمات طنّانة مُجلجلة! وأنه موجود في التفاصيل الصغيرة بالذات وأن الإنساني أوسع أوسع من السياسي المحدود بنظرية أو المقيّد بالتزام لقائد أو للجنة مركزية!

لن أكون "راضي" أكثر منه عن شعره. بمعنى أنني أقدّر أن الشاعرَ، مهما يُبدع فإنه يخرج من كل مغامرة شعرية أقلّ رضى وأكثر تصميما على الإتيان بما هو أروع. من هنا، أشير إلى ثلاثة مواضع تستحقّ من الشاعر التفاتةً. وأذكرها بإيجاز لأنها تظلّ أقلّ شأنا بكثير من واحات نصوصِه وجداولِها وبساتينها.

الأول ـ تمسّك الشاعر باللهجة اللبنانية وإن كانت المسافة بين الكرمل وبينها غير بعيدة. يُستحسن العودة إلى رحاب عاميته ولهجته غير البعيدة أنتروبولوجيًا عن اللهجة اللبنانية التي أثرت في جيل من شعراء المحكية عندنا يكتبون بأثر الزجل اللبناني على عدّتهم الشعرية.

الثاني ـ الاستعانة بمفردات من اللغة المعيارية وإن كان توطين مفردة معيارية في المحكية أقلّ كُلفة من الناحية الجمالية من توطين مُفردة محكية في اللغة المعيارية. وقد عدّ ذلك في الشعر المحكي مأخذا على شاعر المحكية.

والثالث ـ بنية القصيدة الراضية التي لم تتغيّر منذ أن أطلقها الشاعر في فضاءاتنا. بُنية متوقّعة خاصة أن المواضيع التي عالجتها محدودة.

لقد تجاوز راضي عتبة الشعر إلى صميمه من زمان ـ والحُكم هو على مستوى الجودة والفنية وليس إذا ما كان النصُّ شعرًا أو لا شعر. وهو النقاش الذي يدور حول الغالبية العُظمى مما يُكتب بالغة المعيارية عندَنا وفي غير موضع. ردّ راضي في مجموعته الجديدة الاعتبار للشعر المحكي ولشعراء المحكية. وضعَ بشعرِه الحدّ الفاصلَ بين الكلام الشعري وبين الكلام المنظوم، بين غنائية وإيقاع يشكلان جزءا لا يتجزأ من النصّ وبين وزن وتفعيلة يعتقد البعض أنهما شرطُ الشعر الوحيد!

سيُحسن راضي صنعا لو سار على درب الشعراء الشعراء في تجاوز ذاته وقصيدته في المجموعة الآتية. والآتي عند راضي أحلى! أقترح عليه أن يفعل ذلك في الحيّز التفعيلي لقصيدته. فقد يساعده ذلك على تغيير بُنية القصيدة. أقترح عليه، أيضا، ألا يكتفي بشعر المشاعر والتوصيف ـ وهو شعر له حضوره الكثيف في تجربة راضي الشعرية منذ بدأها ـ بل أدعوه إلى تجريب الشعر التأمليّ الذي يفتح أمام الفكر والخيال الشعرييْن وأمام الشاعر أيضا آفاق جديدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة