حقا هذّبت براغ عقلي

تاريخ النشر: 08/05/13 | 7:29

حدث ذلك في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي .

عملت يومها ممثلا للحزب الشيوعي الاسرائيلي في مركز الحركة الشيوعية العالميةا لمرتبطة بالاتحاد السوفييتي ، آنذاك ، وممثلا له في مجلة الأحزاب الشيوعية المذكورة :

" قضايا السلم والاشتراكية ".

كانت براغ محطّة جميلة في حياتي ، وسّعت أفقي الفكري وهذبت نفسي كثيرا وفتحت المدينة الجميلة ، بكنوزها المعمارية والحضارية ولطف ناسها ومرحهم المرير وسعة معرفتهم ، آفاقا جديدة أمام عقلي وراحت تحدث بي تغييرا بطيئا ولكن ملحوظا .

براغ عمّقت ووطّدت ، للحقيقة ، انحيازي للتعددية الفكرية وأرست قناعتي ، التي قويت مع التجربة الحياتية ، بأن لا أحد َيحتكر الحقيقة المعرفية وأنّ جمال وجودنا بتعدّد الوانه وتجلياته وأنّ الموجودات في عالمنا لا تتحمل النظرة الثنائيّة للأشياء المتأصّلة في أذهاننا ، من مثل خير وشر ، وكأن الخيرلا يكون ولا يمكن أن نتلمسه الاّ اذا وجد نقيضه – الشر – وكذلك معادلة الحرب والسلام وغيرهما ، وقد قَوَّت حسّي بالعدالة الاجتماعية ونصرة المغبون انطلاقا من قناعاتي الانسانية والأمميّة الصادقة وبقناعة ظلّت تلازمني أنّ الشكل الذي فرضت به الاشتراكية على الشعب التشيكي أساء له كثيراً ، فالطريق الى الجنة والسعادة الانسانية المرجوة لا تمرّ عبر الدبابات ومن خلال الدموع .

ومنحتني براغ بداية وعيي الشَّخْصي ، خلافا لوعيي الحزبي السابق ، بأن ما تحدّث عنه ماركس وانجلس ولينين وستالين في وقت لاحق وغيرهم ، عن التناقض العدائي ، المرتكزالى الديلكتيك وفهم مخطوء لجدلية الحياة ومظاهرها الطبيعية ، كما أرى ، يمكن أن يؤوّل ويشكّل مدخلا فكريا للاستئصال الاجتماعي – مفهوم الطبقة العاملة كحفار قبر الرأسمالية – ونبذ فكرة التعاون بدلا من التنافس وكل ماعرفناه لاحِقا من جرائم اقترفها عهد ستالين وتحدّث عنها ، صراحة ، خروتشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي .

وقد ازددتُ قناعة ، مع مرورالوقت واتساع معلوماتي من أكثرمن مصدر ورسوخ تجربتي الحياتية وتشعب مداركي ، أنّه لن تستطيع حركة النهوض بمهام انسانية ، كالمطروحة في عالمنا اليوم وخصوصا مهام التحرير المجتمعي ،على الصعيد المحلي أوالعالمي ، وحفظ السلم العالمي وحماية البيئة الانسانية والطبيعية المحيطة بنا ، لن تستطيع ذلك أية حركة ما لم تحدث قطيعة جدّية ، جريئة ومعلنة جهارا مع ما كان من ممارسات قمعية ووحشية منافية لأبسط الحقوق الانسانية ، فيما كانه " العالم الاشتراكي " من كمبوتشيا بول بوت ، مرورا بالاتحاد السوفييتي ورومانيا .

ولا تعني هذه القطيعة التنكّر لكل ما كان أو التهليل لما حل مكانه ، بل دراسة جريئة وتلخيص جدّي لحقيقة ما كان وكيف كان ذلك ممكنا ؟ . فما كان ، يمكن أن يشكل درسا انسانيا نستفيد منه ، ويمكن أن ينضم الى تجارب انسانية عظيمة ، بكل سلبيّاتها وايجابيّاتها ، كثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس في روما أو ثورة الزنج والقرامطة من تاريخنا القريب ، وغيرها .

***

حين أذكر براغ، أذكر دائما أصدقاء من اليمن الجنوبي الذي كان يحكمه الشيوعيون اليمنيون من الجنوب والشمال .كانت علاقاتي بهم وبممثلي الأحزاب الشيوعية العربيّة خاصة علاقات حميمة ودافئة،وبشكل خاص مع ممثل الحزب الشيوعي الفلسطيني،نعيم الأشهب،الذي أعانني كثيرا ومشكورا في توسيع علاقاتي مع كثيرين وتقديم النصح السديد لي في كثير من حراكي الاجتماعي والسياسي وسوف أظلّ أذكره، ما حييت،بالخير والاقرار بالجميل.

وحين أذكر براغ، كيف لاأذكرتلك الليلة المعتمة والمخيفة.

كان الشاعر سميح القاسم في زيارة الى براغ، دعينا يومها الى احتفال يعدّه،سنويا،الشيوعيون العراقيون.وكان معنا مدعوّا أيضا القائد الشيوعي الفلسطيني، نعيم الأشهب.

كانت قاعة "سلوفنسكي دوم"(البيت السلوفاكي)، حيث عقد الاحتفال،غاصّة بالمحتفلين.فكانت أعداد كثيرة من الشيوعيين والطلبة العراقيين مبعدة عن العراق، قسرا وتعسّفا ، وتسكن في براغ. وكان الاحتفال مهيبا وواسعا،يجمّله الغناء العراقي(الموال البغدادي والمقامات العراقية) والرقص الشعبي العراقي الجميل ويعكس تظاهرة صداقة ،خاصة عربية- كردية.وقد ألقى فيه الشاعر سميح القاسم قصيدة قصيرة،أذكر منها تساؤله المؤلم:

أبكي عراقي أم أبكي فلسطيني ؟.

تساؤل سميح يهدهد في أذنيّ اليوم أكثر من ذي قبل ، وأنا أرقب ما آلى اليه البلد ، الذي ربطتنا به وبناسه وشائج انسانية لا تنفصم ، وأرقب في هلع المفزوع ما أصاب شعبنا في الضفّة والقطاع !.

فأردّد سؤال سميح:

أبكي عراقي أم أبكي فلسطيني ؟ .

وبينما نحن في أجواء احتفاليّة وحماسية مبهجة ، وصلنا ، خفية من الرفاق التشيكيين ، نبأ أن المخابرات التشيكية قبضت في منطقة الاحتفال على من كان مبعوثا من " أبونضال " المعروف ، آنذاك ، باتصالاته المشبوهة مع مخابرات صدّام العراقية ونظامه الدموي . وكان يستهدف قتل أحد اثنين من القادة الشيوعيين العراقيين:

زكي خيري وأبو حسان ، ثابت العاني .

للحقيقة بدأنا نتخوف مما يمكن أن يقع ، وبدأالضيوف من قادة الأحزاب الشيوعية ، بما في ذلك الحزب الشيوعي العراقي ، ينسحبون من القاعة، ولكن بدون هلع وخوف ظاهر ، فكنا ننسحب من القاعة وكلنا ثقة أنّ الرفاق التشيكيين يرعون انسحابنا الهادىء .

في تلك الأيام قُتِلَ فلسطينيون مثقفون ومتنورون وعراقيون كثيرون .

كنّا نعرف من تملي مصلحته سفك المزيد من الدم الفلسطيني أوالعراقي ، كما هو حال اليوم ، لكنّا لم نكن ندري أيّة يد هي التي أريد لها أن تحمل كاتم الصوت !

وللحقيقة أنّ رعب تلك الليلة ظلّ يلاحقني طويلا في براغ في تلك السنوات ، التي نحصد في هذه الأيام (منتصف النصف الأول من العقد الأوّل للقرن ا لجاري) ثمارها المسمومة وخيبات أملها المريعة.

كلّما تذكّرت تلك الليلة وغيرها من أحداث ، يقفز في ذهني سؤال :

أي عالم أبقته لنا الأنظمة القمعية ،على تسمياتها المختلفة ، البائدة والتي لا تزا ل سائدة ؟

وأي حلم انسانيّ ، جميل شوّهوه وقتلوه ؟ .

***

في أحد الأيام من صيف 1983 دعيت الى لقاء مع ضيف ، ينزل في براغ ، هو وزيردفاع اليمن الجنوبي ،علي عنتر ، دعيت بمعيّة ممثلي الأحزاب الشيوعية العربية .

تحدّث عنتر باسهاب ومطولا عن الصراع بين الشيوعيين اليمنيين في السلطة والحزب .

حقيقة لا أذكر أكثر ما رواه ، لكن بعض ما قاله ظل عالقا في ذهني ، لكثرة ما أخافني ، قال لرفيقه الأمين العام للحزب ، عبدالفتاح اسماعيل :

يا عبد الفتاح ، احذر ، والاّسأذبحك .

هذا ما قاله لنا حرفيا .

مثل آخرين حضروا الاجتماع ، ذلك المساء ، لم يصدّق عقلي ما سمعت . أيعقل حقا أن تصل الخلافات بين رفاق درب هذا المستوى من الكراهية والعنف المتبادل ؟. فماالذي بقي يجمع بينهم من رؤية اجتماعيّة وفكرية مشتركة وحسّ انسانيّ مشترك ؟ .

أذكرأنَّ أحداً من الحضور لم يبدِ احتجاجا أو سؤالاً حول ما سمع ، كأن الأمر لا يعنينا ! .سألت نفسي مرارا كثيرة أية تربية مدجِّنة حوَّلتنا الى مجرد آذان مصغية .

حقيقة لا زلت أخجل من نفسي ومن بلادة الحسِّ التي كنتها تحت اسم الاستقلالية التنظيمية الوهمية ، كان يتاح لقيادة حزب ما ارتكاب أفظع الموبقات وأخطرها وأشدَّها أثرا تدميريا على مجمل الحركة ، التي نقشت على أعلامها وفي برامجها الاجتماعية خلاص الانسان من كل عسف وجور ! .

كان يجب حينها أن أتوصَّل الى الاستنتاج الحقيقي :

أن حركة تبيح لبعض قادتها باسم الاستقلالية وعدم التدخل أن يتفوَّهوا بهذه العقلية وينفذوا ما هدَّدوا به لا يمكن أن تحقِّق ما نثرته من وعود !.

وفعلا قتِل عبد الفتاح وقتل علي عنتر وقتل كثيرون. وقتل،أجهض، ما اصطلح على تسميته بالثورة الاشتراكية في اليمن الجنوبي . أنهتها العصبيات القبلية ، التي ما زالت مُعشّشة في كثيرمن مجتمعاتنا العربية ، المحلية وفي الخارج . وما أحوج شعوبنا للتخلص ، حقيقة وجذريا ، من هذه العصبيات والتجلّيات الأخرى المشابهة لها ، كالحمائليّة والطائفية والعصبويّة الضيقة .

فالشيوعيون اليمنيون لم يخلوا من هذه العُصْبَوِيّات . وقد أكّدت تجربة الشيوعيين في اليمن الجنوبي ما كان معروفا أن مجرد الاعلان : أنّ هذا المرء شيوعي لا يكفي ، فكثير من الرواسب والعقليات القبلية والطائفية والفئوية تظلّ عالقة وماثلة " والأصولية " الشيوعية تكون أحيانا أشدّ خطرا ، من أيّة أصولية أخرى ، خاصة حين تكون في السلطة وتتحكم فيها نزعات الفرديّة والاستئصال وعدم احترام الآخر وعدم مراعاة التعددية والقناعة القاتلة والقائلة بأن الحقيقة التاريخية والمعرفية في حوزتي وفي حوزتي فقط . وأخطر ماتكون، حين تغذّي ذلك عصبيات قبليّة،غريبة في الحقيقة عن الفكر الشيوعي الصحيح.

***

وفي صيف ذلك العام كنت في عطلة صيفية في بحر الشمال ، أنا وزوجتي والراحل جمال موسى ( كان قائد منطقة عكا الحزبية ) وزوجته ( طال عمرها ) . وكان معنا ضيوف مستجمون ، مثلنا ، من لوكسومبورغ والمغرب والجزائر وتونس واليمن الجنوبي .

كان الجوّ حميميا ، مبهجا وغنيا بالحديث الفكه والمثمر النافع وبالراحة ، الجسدية والنفسيّة .

لكن فوجئنا في أحدى الأمسيات بزوجة أحد الرفيقين اليمنيين تبدو في حالة مضطربة ومربكة.

وحين استجلينا الحقيقة ، انتهى الى علمنا أن زوجها العضو في لجنة الحزب المركزية استدعي ، على وجه السرعة ، الى عدن وطلب اليه ورفيقه أن يقطعا عطلتهما الصيفية ويعودا سريعا الى العاصمة اليمنية . ولم تخف الزوجة قلقها ، فأنباء الصراع والتصفية الجسدية المتبادلة لكوادرالحزب المتخاصمة لم تعد سرا .

وقد علمت في وقت لاحق أنّهما لم يبقيا بين الأحياء ، فالاحتكام الى السلاح والعنف القاتل لم يرحمهما ولم يرحم الكثيرين ، ففور رجوعهما اتهما بالتكتل والخيانة الحزبية وسيقا الى موتهما .

كان ذلك الصراع فاتحة لما شهدته جمهورية اليمن الجنوبي من مآس سببها الاحتكام لمنطق العنف والعداوات القبلية السابقة ورفض الاحتكام لمنطق العقل والاقرار بحقا لاختلاف، فالاختلاف في الرأي ووجهات النظر وفهم الأشياء ، هومن طبيعة الحياة ولا يعني صراعًا ، وحتّى حين يصير صراعا ، يجبُ ألا يجد حلّه في الاستئصال الدموي العنيف والقمعي ، انما بالحوار والاقناع غير القسري .

***

أذكر براغ كثيرا وكلما ذكرتها في عقلي ، أطلّت عليَّ ، بحزنها الشديد ، وجوهُ مَن أعرفهم ولا يُعقل أن أنساهم من الشيوعيين في اليمن الجنوبي ، الّذي لم يعد للأسف قائما . وكان عقلي حدّثني كثيرا:

أنّ بعض ما كان ، كان يجب ألاّ يكون.

أحس بالقشعريرة الممزوجة بالخوف ، كلما تذكّرت ما كان في اليمن الجنوبي وغيره.

سألت نفسي بعدها ، خائفا ولكن بألم ، ماذا كان سيكون مصيري ومصيرآخرين لوأنّ بعض القادة ، وكنت واحدًا منهم ، امتلكوا ( امتلكنا ) سلاحا بحكم السلطة والقوة.

كم هو محزن حقا أن يحسم خلاف ، أيا كان سببه وجوهره ، بالتخوين والتشكيك وكيل الاتهامات المختلقة جُزافاً وبالعنف ! هذا ما حدث في اليمن وفي أماكن عديدة من عالمنا ، الصغيروالكبير، وقد حان الوقت لنتعلّم ، تتعلّم الانسانية ، كي نخلص من كلِّ هذه الشرور.

ربّما أكون ارتكبت أخطاء في حياتي الحزبية وفي بعض فهمي ، وهذه الأخطاء هي جزء من التجربة الحياتية وهي جزء من نمط ما كان متعارفاً ، لكنها لا تقارن بحدّة الهجمة التجريحية والتصفوية الشخصية عليَّ ( النيل من شخصي وخصالي بكل وسيلة متاحة ).

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة