اللاجئ السوري وطائر اللقلق

تاريخ النشر: 04/09/15 | 16:08

جُثَثُ أطفالٍ ونساءٍ ألقى بهم الموج على الشواطئ، بعد أن غرقوا في عُرض البحر. عجوزٌ تُقَبّل يد شرطية في “مقدونيا” تتوسل إليها لتسمح لها بالعبور.. امرأة حامل تضع مولودها على الإسفلت في محطة القطارات في “بودابست”؛ عاصمة “المجر”، فلا يجد من كان معها إلا قطعة قماش تحجبها عن أعين الناس، ولكنهم لم يستطيعوا حجب صوت آلام المخاض تضج إلى السماء. سيارة لنقل اللحوم الحيوانية يُحشر فيها أكثر من سبعين سوريًّا يموتون فيها خنقًا ليتحولوا إلى كومة لحم بشري في النمسا، والطفل السوري ابن السنوات الثلاث الذي غرق أخوه الأكبر، ابن السنوات الخمس، وأمه؛ والتقطته عدسات الكاميرات جثة ملقاة على وجهها على الشاطئء الجنوبي لتركيا يحملها حرس الحدود التركي وتملأ الدموع عيونهم، ثم تلك الدموع تتوزع على كل العالم لما رأى هذا المنظر الذي يخلع قلب من لا يملك قلبا من قسوته.

لكأني بتلك الأم السورية تحتضن طفلها في سيارة الموت تلك، وقد اختنقت الأنفاس، لكأني بها تنفخ في فمه نفسًا من نفسها لينقطع النفسَان معًا، لكأني بذلك الطفل يسقط من القارب في عرض البحر، وقد كان في حضن أمه، فتمد له يدها تحاول إنقاذه فتغرق ويغرق، وكأني بمشاهد الألم والحسرة تنزل على أهلنا السوريين في هذه الأيام في مسيرة نكبتهم، التي تذكرنا مشاهدها بنكبة شعبنا الفلسطيني عام 1948. وإذا كان اللاجئون الفلسطينيون عام 1948 قد وجدوا قلوب وبيوت السوريين مفتحة لهم تستقبلهم وتحتضنهم؛ فإن اللاجئين السوريين في العام 2015 قد أوصدت أمامهم الكثير من الأبواب، وتنكر لهم الكثير من الأشقاء قبل الأعداء، فهاموا على وجوههم في أنحاء الأرض.

إننا نرى مشاهد مسيرات السير على الأقدام من أرض الوطن سوريا نحو تركيا، ثم ركوب البحر إلى اليونان، حيث لا بد للبحر أن يجبرهم على دفع ضريبة العبور بأن يأخذ العشرات والمئات منهم غرقًا، ثم بعد ذلك مشوار السير على الأقدام آلاف الكيلومترات بدءًا من اليونان مرورًا بمقدونيا، ثم صربيا، ثم المجر، ثم النمسا، وصولًا إلى ألمانيا، فهذا أب يحمل صغيره على كتفيه، وهذه أم تحتضن رضيعًا بين يديها، وذلك شاب يدفع عربة متهالكة يجلس عليها أبوه العاجز، وتلك عجوزٌ تتهادى على عكازها تحمل في صدرها كل الألم وكل الحزن وكل الغضب على من لم يرحموا شيبتها.

لقد حلَّ عليهم الظلم، وكثر فيهم القتل، ودمرت بيوتهم، وشردت عوائلهم وانتُهكت حرماتهم وأوصدت الأبواب والحدود أمامهم، إلى درجة أنهم لم يترددوا في ركوب البحر بقوارب متهالكة، يعلمون أنها خطيرة ولا تصلح للسفر البعيد. ولقد سمعوا ورأوا قصص كثيرين سبقوهم إلى البحر ولم يصلوا إلى الشاطئ الآخر الذي كانوا يريدون الوصول إليه، ولكن ذلك لم يمنعهم من سلوك نفس السبيل، بحثًا عن السلامة والأمن. ولعل أصدق وصف يصف حال هؤلاء هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: “ينزل بأمتي في آخر الزمان بلاءٌ شديد من سلطانهم لم يُسمع بلاءٌ أشد منه، حتى تضيق عنهم الأرض الرحبة، وحتى تملأ الأرض جورًا وظلمًا لا يجد المؤمن ملجأ يلجأ إليه من الظلم”. فأي بلاء أعظم من البلاء النازل على أهلنا في سوريا، حتى لم يعد لهم في وطنهم متسع، من شدة الظلم والقهر والبطش، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فركبوا البحر ويمموا شطر أوروبا وكل مكان تصل إليه أقدامهم، وكل ذلك البلاء الذي نزل بهم هو بسبب سلطانهم؛ أي بسبب قادتهم وحكامهم. إنه بسبب بشار الجزار في الحالة السورية، والسيسي السفاح في الحالة المصرية…

ولقد تذكرت، وأنا أرى مواكب وزحوف اللاجئين السوريين تتجه شمالًا نحو أوروبا بحثًا عن الدفء والسلامة، تذكرتُ أسراب طائر اللقلق التي سنراها بعد أسابيع قليلة في رحلة الهجرة العكسية من الشمال إلى الجنوب بحثًا عن الدفء والسلامة.

إنه طائر اللقلق، الذي كما تذكر الكتب، لما كان يحط ترحاله في بلاد المسلمين؛ في تركيا وسوريا والعراق وغيرها ليرتاح ويبحث له عن رزقه وطعامه، وفي أوقات كانت بلاد المسلمين قد أصابها المحل والقحط والجفاف، حتى لا يجد طائر اللقلق ما يأكله فتهلك منه أسراب كثيرة، تنبه المسلمون أصحاب دين الرحمة إلى ذلك المشهد فكانوا يخرجون إلى السهول والبراري يلقون بالحبوب والأطعمة لأسراب اللقلق لتأكل منها، لا بل إن منهم من خصص أوقافًا وأراضي تزرع بالحبوب وغيرها، ويُدخر ما يحصد منها، حتى إذا جاء موسم هجرة طائر اللقلق أخرجوا من الصوامع هذه الحبوب ونثروها في البراري وفي المناطق التي تمر بها أسراب اللقلق.

إنها الرحمة وصلت في قلوب المسلمين ألا يجوع ولا يظمأ في بلادهم حتى الطائر المهاجر يمر من أرضهم وأوطانهم، فكانوا يوقفون الأوقاف والأراضي والعقارات؛ لا يكون ريعها ولا خيرها ولا منتوجها إلا للإنفاق على طائر اللقلق وإطعامه.

وتدور الأيام وتتغير الأحوال لنعيش ونشهد ما تشهده معنا كل الدنيا؛ كيف يبخل بعض المسلمين على أهلنا السوريين، وكيف يمنعونهم من دخول أراضيهم، بل يلاحقونهم ويطاردونهم! ثم هو نفس اللاجئ المسلم، وفي هذه المرة هو اللاجئ السوري يطوف في بلاد أوروبا والغرب ينتظر من يلقي إليه فتات موائده ليقبل بها، لعلها تسد رمق وجوع أطفاله.

كم هو مضحك، بل إنه يثير الغضب، أننا ما زلنا نسمع من يردد من أبواق مدعي المشروع القومي وبصوت مبحوح (بلاد العُرب أوطاني)! ومن لا يزال يتشدق بشعار البعث (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة)! أليس من العار أن تغلق الحدود والمطارات في كل الدول العربية، باستثناء جيران سوريا؛ الأردن ولبنان، أليس في دول العرب في شمال أفريقيا وفي الخليج ما يستوعب عشرات ملايين البشر وليس بضعة ملايين؟ أليس في أرصدة هذه الدول الغنية بالنفط ما يكفي لإسكان عشرات ملايين السوريين أبد الدهر، وليس لأشهر أو سنوات؟ أليس من العار أن يُرى العرب يتسولون ويتوددون ويتذللون عند الحدود للسماح لهم بدخول هذه الدولة أو تلك؟ لكن يبدو أن بعض أغنياء النفط هم فقراء بالرحمة، وأن بعض أثرياء الغاز هم فقراء بالنخوة والشهامة العربية، التي كنا نقرأ عنها في الكتب.

صحيح أن الفلسطيني لا يملك الشيء الكثير يفعله للسوري، على اعتبار أنه لا يزال يعيش نكبته الأولى، ومن بقي في الوطن فإنه يعيش تحت احتلال، ولكن هذا الفلسطيني يعلم علم اليقين أن الشعب السوري، احتضن أهله اللاجئين بكل الحب والحنان عام 1948 وأسكنهم بجانب المدن السورية، حيث أقيمت أغلب المخيمات الفلسطينية، وذلك قبل قيام البعث، وقبل تسلط النظام الأسدي المجرم، حتى لا يقول قائل إن الفضل في ذلك يعود لحزب البعث وللرئيس حافظ الأسد والد بشار، كما نسمع بعض الأبواق الجاهلة حتى في التاريخ، بل المزورة له عن قصدٍ وسبق إصرار.

فإن لم يستطع الفلسطيني فعل شيء لهذا اللاجئ السوري وشقيقه اللاجئ الفلسطيني، الذي يُهجَّر للمرة الثانية، فعلى الأقل، وفي الحد الأدنى من الأدب والإنسانية، أن يلتزم الصمت وألا يهتف لبشار، ولا يؤيد جرائمه، ولا يبارك تدميره لمدن سوريا وقراها ومخيماتها، حيث ما زلنا نسمع بعض الأصوات النشاز من شبيحة بلادنا يهتفون لبشار.

ليس أن العرب قد سقطوا في امتحان سوريا، وليس أن بعض الفلسطينيين قد انفضحوا في امتحان سوريا، وليس أن كل المسلمي، وما أكثر مآسيهم وجراحهم! قد أضيف إليهم الجرح المصري والجرح السوري والجرح اليمني، فإن المسلمين، كل المسلمين، هم الآن في امتحان وفي محنة، وكان أبرز من سقطوا وانكشف زيف انتمائهم إلى هذه الأمة هم إيران ومرتزقتها في المنطقة، وفي مقدمتهم “حزب الله”، الذي راح يقاتل الشعب السوري، ويذبح أبناءه لحساب نظام طائفي بغيض، وهو يشعر بالأمان من طرف المؤسسة الإسرائيلية، لأن ما يفعله هو تحقيق مباشر لمصلحتها في استمرار ونزيف الدم في سوريا. ولكن الامتحان الأكبر والفشل الأبرز كان لِما يسمى المجتمع الدولي وللمنظمات الدولية؛ كمجلس الأمن والأمم المتحدة، هذه المنظمات المرتهنة للممولين الكبار وسياساتهم، وفي مقدمة هؤلاء الولايات المتحدة.

إن أمين عام الأمم المتحدة “بان كي مون” يتظاهر بالحزن والأسف على حال اللاجئين السوريين وغيرهم، الذين يغرقون في مياه البحر المتوسط، ومن ينجو منهم فإنهم يغرقون في بحار الهّم والألم والحرمان والذل في دول أوروبا، إنه يتظاهر بالأسف على هؤلاء اللاجئين، دون أن يسأل نفسه لماذا لم يفعل شيئًا ضد من يهجّر هؤلاء ويقتلهم ويدمر بيوتهم؟ لماذا هذا المجتمع الدولي المنافق المتلوّن يترك مجرمًا مثل بشار الأسد يدمر شعبه ويقتله بكل أصناف القتل والتدمير، وهو القادر -أي المجتمع الدولي- على إيقاف ذلك ومنع استمراره؟

ما أجملها وما أروعها تلك القصيدة بعنوان “ثورة لاجئ” لفضيلة الشيخ يوسف القرضاوي من ديوان شعره “نفحات ولفحات”، والتي يحكي فيها بأسلوب بارع قصة طفل فلسطيني لاجئ. فلكأني به يحكي اليوم قصة طفل سوري لاجئ، أو قصة ذلك الطفل الفلسطيني الذي أصبح اليوم أبًا، بينما هو وأطفاله لاجئون للمرة الثانية، يطرقون أبواب أوروبا؛ وهذه بعض أبياتها:

إن شئت يا عم فاسمع قصةً عجبًا وإن تكن عُرفتْ للقاصي والداني
يا عمُ إني غصن لا حياة له قُطعت بالغدرِ عن أصلي وسيقاني
فقدتُ روح أمي والحبيب أبي فقدت أهلي وأرحامي وجيراني
واللاعبون معي في شارعي ذهبوا موتى استراحوا شأنهم شاني
لقد تفرق أهل الحي في بلدٍ إلى الكهوف بأقطارٍ وبلدانِ
فقدتهم ففقدتُ العيش بعدهم كيف الحياة بلا أهلٍ وخِلان
فقدت كل عزيز لي، فلا وطنٌ ولا حبيب ولا داري وبستاني
دار الجدود التي فيها صباي ربا وطالما وسعت لعبي وأخواني

كم هو صعب وحزين ومؤلم أن نرى زحوف العرب، من السوريين والعراقيين والفلسطينيين، يتوسلون على أبواب مدن أوروبا وعواصمها ليُسمح لهم بالدخول طلبًا للأمان والسكن والغذاء، بينما يعامَلون بقسوة وغلظة، حيث الإهانات، كما هو الحال في “بودابست” عاصمة “المجر”، حيث المعاملة الأسوأ.

أية مفارقة عجيبة هذه أن يقف المسلمون اليوم يتسولون ويفترشون الأرض على أعتاب قساة قلوب، وينتظرون فتات موائد اللئام من أهل “المجر”، بينما وفي مثل هذا اليوم تحديدًا (20 من ذي القعدة 932 هجرية \ وفق 1526/8/28) فتح السلطان سليمان القانوني العثماني بلاد “المجر”، وسقطت عاصمتهم “بوادبست”، وقتل ملك المجر تحت ضربات وزحوف 100,000 جندي و 300 مدفع و800 سفينة كانت تتحرك في نهر الطونة (الدانوب) لنقل الجيوش والمعدات والمؤن، أليس هذا من عجائب القدر ودورات الزمان؟!

إن سوء الحال والظلم النازل بنا -نحن المسلمين عمومًا- هذه الأيام، وأهلنا في سوريا على وجه الخصوص ليجعلنا نقول: ليت أبناءنا وأطفالنا وعجائزنا، الذين يسامون اليوم سوء العذاب والتجويع والحرمان من أساسيات الحياة؛ ليتهم ينالهم من مظاهر الرحمة، مثلما نال طائر اللقلق، ليتهم يجدون من يحنو على طفولتهم المعذبة وإنسانيتهم المهانة مثلما وجد طائر اللقلق من يحنو عليه، وهو جائع في غربته وسفره.

ولكننا على يقين بالله وثقة لا تتزعزع به سبحانه أن هذا الظلم إلى زوال، وأن هؤلاء الظلمة من الحكام أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة إلى صفحات التاريخ السوداء، هؤلاء الذين جعلوا الأرض بما رحبت تضيق على شعوبهم، فاضطروهم إلى الهجرة وركوب البحار والأهوال والعيش أذلاء عند أعتاب الأعداء.

إننا على يقين أنه سيتحقق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه الذي مطلعه: “ينزل بأمتي آخر الزمان بلاء شديد من سلطانهم، لم يسمع بلاء أشد منه، حتى تضيق عنهم الأرض الرحبة، وحتى تملأ الأرض جورًا وظلمًا، لا يجد المؤمن ملجأ يلجأ إليه من الظلم”. وفي غمرة هذا الحال، وفي وسط هذا الظلم والظلام يأتي الفرج بإذن الله، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: “فيبعث الله عز وجل رجلًا من عترتي فيملأ الأرض قسطًا وعدلًا، كما ملئت ظلمًا وجورًا، يرضى عنه ساكن الأرض وساكن السماء، لا تدخر الأرض من بذرها شيئًا، إلا أخرجته ولا السماء من قطرها شيئًا إلا صبه الله عليهم مدرارًا، يعيش فيهم سبع سنين أو ثماني أو تسعا، تتمنى الأحياء الأموات مما صنع الله عز وجل بأهل الأرض من خيره”.

فيا أهلنا اللاجئين في سوريا وفلسطين والعراق واليمن ومصر، يا كل المسلمين، والله لن يطول الزمان الذي فيه سيعود مجدكم وعزتكم، وتنتهي غربتكم، وتعودون إلى أوطكانكم بعز عزيز أو بذل ذليل. وليس أن طائر اللقلق سيطيب له العيش في بلادكم، ولكنهم من يطردونكم اليوم عن أبوابهم وعند حدودهم، سيقفون يطلبون ويتوسلون رضا قادتكم وعظمائكم، قد يكون هذا مادة للتندر والضحك الآن، فلهؤلاء نقول إن وعد الله حق، فانتظروا إنا منتظرون.

رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالديّ بالمغفرة
(والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)

الشيخ كمال خطيب

0014

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة