في تجديد الخراب فلسطينيًا

تاريخ النشر: 03/09/15 | 11:09

عن طريق خدعة الاستقالات الجماعية لأعضاء لجنتها التنفيذية، ودعوة المجلس الوطني الفلسطيني للانعقاد بمن حضر، تعتقد منظمة التحرير أنها تجديد شرعيتها، وكأن الاستعانة بالمؤسسات الميتة يمكن أن تحيي موتى آخرين، مثل اللجنة التنفيذية للمنظمة.

بصرف النظر عن المشروعية القانونية والسياسية والأخلاقية، لاستقالات شكلية /كاذبة من أجل عقد المجلس الوطني، يمكن السؤال عن معنى تجديد الشرعية، وبأي أدوات؟ وأي تجديد ذلك الذي يبدأ بإجراء يخالف المضمون الحقيقي لمفردة “الاستقالة” نفسها؟ فلسطينياً، نبدع، اليوم، في تغيير معاني مفردات مستقرة المعنى، بفضل هذا الإبداع بتنا نعرف أن الاستقالة لا تعني مغادرة الموقع الذي تمت الاستقالة منه، بل هو آلية التفافية للتخلص من الآخرين الذين يرفضون الاستقالة. نستقيل نحن، وباستقالاتنا نطردهم، ونعود إلى حيث كنا دونهم. برافو، لاختراع تكتيك سياسي مبهر.

لنذهب إلى الإجراء نفسه، ونرى الأدوات التي تستخدمها القيادة الفلسطينية لتجديد الشرعية الفلسطينية؟ آخر مرة عقد فيها المجلس الوطني الفلسطيني، كان في قطاع غزة 1996، الدورة التي تم فيها تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني، ليناسب اتفاقيات أوسلو التي وقعتها منظمة التحرير مع إسرائيل. وكانت جلسة احتفالية، أقرب إلى التظاهرة، لأنه تم التصويت على تعديلات الميثاق بالتصفيق. لم نعرف من كان مع التعديل، ومن كان ضده، بل، أكثر من ذلك لم يكن معروفاً فعلاً إذا كان الذين حضروا ذلك المجلس أعضاء في المجلس الوطني أم لا. منذ سنوات، لا تعرف رئاسة هذا المجلس من هم فعلاً أعضاؤه. وهذا ليس نكتة، اسألوا سليم الزعنون إذا كان يملك قائمة حقيقية بأعضاء المجلس الوطني الذي عدد أعضائه 765 عضواً (الأحياء منهم والأموات)، على الرغم من أنه من غير المفهوم أن يكون للفلسطينيين، بقضيتهم المعقدة، كل هذا العدد من الأعضاء في المؤسسة التي يُفترض أنها أعلى هيئة تشريعية فلسطينية، وتمثل الفلسطينيين في كل مكان، من دون أن ينتخبها أحد، وتعينها القيادة الفلسطينية.

إذا كان آخر مجلس وطني عقد في 1996، أي قبل عشرين عاماً تقريباً. وإذا كان الحد الأدنى لأعمار أعضائه في ذلك الوقت 45 عاماً، فنحن سنكون أمام انعقاد للمجلس الوطني بأعضاء، الحد الأدنى لأعمارهم 65 عاماً، وهذا المجلس الذي سيكون، فعلياً، قاعة لمأوى عجزة، تخيّلوا أن مجلساً كهذا منوط به تجديد الشرعية السياسية والتمثيلية لرئيس ثمانيني، وللجنة تنفيذية سيكون متوسط أعمارها لا يقل عن 65 عاماً؟

ما هي المهمة الوطنية التي يعقد مجلس وطني فلسطيني استثنائي من أجلها؟ هل هناك مهام وطنية ملقاة عليه، غير تجديد شرعية القيادة التاريخية؟ يبدو أننا أصبحنا نعيش في الدول الأسكندنافية، بلاد انتهت من كل مشكلاتها الأساسية، وعندها ديمقراطية تمثيلية من طراز رفيع، ولم يبقَ أمامها سوى التلهي بالألاعيب الديمقراطية الشكلية وبالتذاكي على بعض، بصياغات قانونية تافهة. فنحن لا نعيش تحت حراب الاحتلال، وليس هناك غزة محاصرة، وليس هناك فلسطينيون في سورية يعانون من أهوال الحرب التي تدفعهم للهجرة عبر طرق الموت، وليس هناك أوضاع بائسة لفلسطيني لبنان، وليس هناك استيطان يبتلع الأراضي الفلسطينية، وليس هناك قدس مهددة، وليس هناك تفكك للحركة الوطنية الفلسطينية، وتحطم للمجتمع الفلسطيني ولمشروعه الوطني. كل هذه المشكلات لا تقع عندنا، إنها تقع وراء البحار. هل نكون غير واقعيين إذا قلنا إن القيادة الفلسطينية مفصولة عن الواقع، ولا ترى سوى نفسها؟

المفارقة أن القيادة الفلسطينية، اليوم، تطلب تجديد “شرعيتها” في وقت لا يهدد أحد هذه “الشرعية”، على الرغم من أنها شرعية مفقودة منذ سنوات طويلة، وأن المستقيلين استقالوا من اللجنة التنفيذية، ولم يستقيلوا من مواقعهم في السلطة الفلسطينية. ومواقعهم في السلطة التي بقوا فيها هي التي تحتاج إلى تجديد شرعية، فهي ارتبطت بانتخابات فعلية في الأراضي الفلسطينية، باتت اليوم عصية على الإجراء، لأن نتائجها غير مضمونة، ولن تسمح إسرائيل، القوة الحقيقية في الأراضي الفلسطينية، بإجرائها. وما هو مطلوب من اجتماع المجلس الوطني تجديد الشرعية في مواقع جاءت عبر انتخابات جرت في الأراضي الفلسطينية، والمطلوب من المجلس الوطني غير المنتخب أن يجدد الشرعية لهيئاتٍ، يفترض أن تجري انتخابات لتجديد شرعيتها، لكن هذا ليس خيار الرئاسة الفلسطينية التي يمكن أن تجعل موضوع الانتخابات معركة مع إسرائيل.

ومن مفارقة التجربة الفلسطينية، أيضاً، أنه تم تهميش كل مؤسسات منظمة التحرير بعد اتفاق أوسلو، وباتت المنظمة في خبر كان، بعد اجتماع تعديل الميثاق في غزة، وأصبحت السلطة المؤسسة الحقيقية في صناعة القرار الفلسطيني، ولم تستدعَ منذ عقدين. وعاد الحديث عنها بوصفها مانح الشرعية، بعد الصدام الدموي في غزة 2007، وسيطرة حماس على قطاع غزة. حيث أصبح من المستحيل اللجوء إلى مؤسسات السلطة لتجديد الشرعية، لأن حماس فازت بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي. وبالتالي، لا يصلح المجلس التشريعي لتجديد شرعية الرئاسة الفلسطينية، “العدو” الرسمي لحماس، المتحكم بالعدد الأكبر من عدد المقاعد في المجلس التشريعي.

منذ الصدام في غزة، عادت رئاسة السلطة إلى الأدوات القديمة لتجديد شرعيتها، لكن هذه الأدوات (منظمة التحرير ومؤسساتها) باتت من الاهتراء إلى درجة أنها دخلت الموت السريري، بفعل سياسات القيادة الفلسطينية نفسها. واليوم، يديرها ويشغل مقاعدها أشخاص بلغوا أرذل العمر.

نعم، الوصفة جاهزة ومختبرة في العالم العربي، تجديد الشرعية عبر هياكل شكلية، لكن هذه الشرعية لم تحم أصحابها من عاصفة حقيقية. وفلسطينياً، لأول مرة يعقد مجلس وطني بلا معنى، فكل مرة عقد فيها، كان يعقد حول قضايا مهمة، على الرغم من أنها قضايا خلافية. المجلس الذي سيعقد قريباً، سيعقد في الفراغ الفلسطيني، وبدل أن يكون مؤشراً على التجديد وإعادة الاعتبار للمشروع الوطني، سيشكل مؤشراً جديداً على مستوى القاع الذي وصلت إليه الحالة الفلسطينية التي احتاجت، في نهاية المطاف، إلى تجديد الخراب الذي تعيشه، عبر مؤسسات مصنوعة من الخراب نفسه.

سمير الزين

Untitled-1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة