شبكات التواصل كمجمع للنفايات الكلامية

تاريخ النشر: 03/08/15 | 16:54

أتاحت شبكات التواصل الاجتماعي فرصا غير مسبوقة لإمكانيات التعبير عن الرأي، في كل مستوياتها، نادرا ما أتاحتها أية تقنية إعلامية.
أن ترد على ما يكتب، وتكتب ما “تريد”، وتبدي رأيك فيما يقوله الآخرون، وهكذا، فهذه مسألة تحتاج إلى أكثر من مجرد مقولة.
في الكلام هناك ما هو أكثر من التعبير، فالكلام الذي تقوله ينتج حالة، يبني موقفا ويبلور خطابا.
مبدئيا لا مشكلة مع شبكات التواصل من حيث أنها آلية وأداة يمكن استعمالها للتواصل والوصول إلى الناس، لكن معها وبشكل موازٍ تعيد الشبكة صياغة مفاهيم وقيم اعتدنا عليها وعشنا معها، حتى تمس في المسلمات، وتضرب بها عرض الحائط وتدوسها.
على الشبكة أيضا تتشكل حالة مفترضة ووهمية، حالة يعتقد أنها الحياة الحقيقية التي نعيش، فتجرنا إلى هناك ونغادر هنا، وليس هذا فحسب.
أخطر ما في الشبكة هي الفرصة التي تتيحها “للتعبير”، والتي تفقد الموجودين هناك الشعور بالرقابة، وهي مسألة مبنية على حالة شعورية، تمنحك الشعور بالطمأنينة إلى أبعد الحدود، وتتيح لك الاقتراب من حالة لم تكن لتتجرأ عليها في الحياة الواقعية، وتحديدا الكلام والمفردات، بل والقضايا التي تبين رأيك فيها، وتعطيك شعورا أنك في تحد دائم وأن عدم الرد هو “نذالة” و”عجز”، بل وأكثر من ذلك، تتيح الشبكة للأنذال أن يتحولوا إلى أبطال؛ جملة واحدة، غريبة قدر المستطاع، شتيمة، والباقي على الهمة.
تشتعل الشبكة على جملة ومقولة، ويشعر البعض كأنه في حرب، ولا تنتهي المسألة عند هذا الحد، فأنت تحتاج إلى جملة واحدة، غريبة قدر الإمكان ومتطرفة كذلك، ولا بأس من شتيمة، ولا بأس من مهاجمة، ولا باس من التكفير والتخوين وقول ما يمكن من الكلام التعيس؛ خلطة مقرفة من الكلام البائس، وتحول الشبكة إلى مجمع نفايات كلامية.
لكن ليس هذا فحسب، فالشبكة تمنح المحتقنين فرصة للانفجار، وتمنح المعقدين فرصة للتعبير عن عقدهم، وتمنح الذين يمتازون بالخجل من قول كل ما يريدون، كلاما ما كانوا ليقولوه في واقع الحال.
كما تمنح المنحرفين فرصة للتعبير عن انحرافاتهم، وتتيح للأحقاد والحسد والكراهية فرصة للتعبير عن ذاتها في أحط أشكالها التعبيرية وتخلق أوهاما، وتستبدل الساحة الحقيقية بشاشة صغيرة للغاية هي شاشة النقال، يتاح لكل واحد في كل لحظة في كل مكان أن يقول ويعبر عما يريد، فلا رقيب ولا حسيب، وأحيانا تتدخل جهات أخرى لدفع الحالة إلى حضيض أخلاقي مريب، فلا تعرف الكلمات حدودا للبذاءة.
يقول البعض: هناك يعيش الناس والشبان والجيل الجديد خاصة، أي أنه قدر محتوم لا يمكن الهروب منه. وبدلا من أن نصل إلى الشبان، كما يظن البعض، ننجر معهم إلى ذات الأمكنة، فلا نكون هناك ولا هنا.
تخلق الشبكة مجتمعا وهميا وأحاسيس وهمية وصراعات وهمية ونضالا وهميا ومفكرين وهميين وكتابا مثلهم، وسجل ما شئت.
الشبكة الآن تعيد صياغة الواقع الذي نعرفه من جديد. والمصيبة أن الغالبية لا تعترف بالواقع، فواقع الشبكة مريح، ولا يحتاج إلى جهد ونضال وعطاء وتضحية، كل ما يحتاجه بعض الكلمات التي تشعل الشبكة، و”لايكات” أصبحت تعبر عن عقدة حقيقية، لأنها صارت تحتل مكان التقدير الإنساني الذي يجب أن يكون في الواقع. واعذرونا، فلن نناقش هنا مسائل أكثر صعوبة وتعقيدا بشأن شبكات التواصل يحاول الغرب إيجاد حلول معقولة لها، لما لها من أثر تدميري على “تواصل المجتمعات” إنسانيا.
في واقع الحال ليست هناك “شبكات تواصل”، هناك شبكات تعمل على التفكيك، عملها ونشاطها يقود إلى هناك، ولا يمكن للمجتمعات المفككة إنسانيا أن تتواصل على مكان وظيفته التفكيك.
واجب المرحلة يتطلب جهدا خاصا وكبيرا في تنزيل أجيال كاملة من الخيال إلى الواقع، على الأرض، من الفيسبوك إلى “الفيس تو فيس:؛ وجها لوجه.
السيادة والعبادة وأيمن
لا تكمن أية مفاجأة فيما قاله عضو الكنيست أيمن عودة عن المسجد الأقصى وحوله، فما قاله هو استمرار طبيعي جدا لخطاب مفرط في إسرائيليته، يعتمد قاعدة وأساسا واحدا: “نحن العرب لا نجيد مخاطبة الشارع الإسرائيلي…”.
“هناك مشكلة في المصطلحات والكلام عندنا نحن العرب، غياب هذا الخطاب هو الذي يعطي ويمنح اليمين المتطرف وأفيغدور ليبرمان فرصة وسببا للتحريض علينا، ونحن لسنا بصدد منح أية هدية لهؤلاء”.
هذا الخطاب يرفض بل ويلغي خطاب الضحية، والضحية أحيانا تتساوى مع الجلاد في توفير المسوّغات لسلوكية أو مواقف تتبناها الضحية.
نعرف للغاية أن الضحية تصرخ أحيانا، وأحيانا لا إمكانية لإسماع صوتها إلا بالصراخ، والمسألة هنا ليست “جودة الكلام والمصطلحات والعرض”، ولا حتى شكل الظهور، والهدوء والصمت، حتى إذا بصقوا في وجهك تحت ذات الحجة، لن نعطيهم الفرصة، ولن نمنحهم أصواتا وتأييدا، وهناك حاجة وضرورة للحفاظ على الهدوء والصمت ورباطة الجأش.
الكلام أعلاه قد يبدو مقنعا للوهلة الأولى، بل ومقنعا للغاية، لولا حقيقة واحدة على الأقل تدحضه، ولا تبقي له أية فرصة للدفاع عن نفسه. في بلادنا العكس تماما صحيح أيضا، فكلما خفضت هامتك وتراجعت في الخطاب طولبت بتراجع أكبر، فلا تحظى بالرضى ممن تعتقد أنك ترضيهم، وتخسر من حولك، رويدا رويدا.
من المهم الالتفات هنا إلى أن جزءًا من هذا الخطاب نابع أيضا من الاعتقاد أن “الناس تريد هذا الكلام”، وهو الخطاب الذي “يحمي الناس ولا يحتمي بهم”، وهو كلام أكثر من مقنع لولا حقيقة أخرى تفنده: الاستجابة لمزاج الناس والجماهير هو مسألة خطيرة، حين يترتب عليها التنازل الذي يقال للإعجاب.
ليكن واضحا أن هناك مبالغة حقيقية في تصوير “الخطاب الآخر”، الخطاب “الراديكالي” و”المتطرف ” وغير المسؤول الذي يلحق ضررا بنا!
وصفه هكذا لا ينبع من كونه كذلك في جوهره، بل من حقيقة أنه مرفوض عند الطرف الآخر، عند الجاني. وتقييمه هذا نابع من اعتبارات معيشية فقط، فالناس بالعموم مشغولون بالمعيشة والحياة، وفي المقابل يجب توفير خطاب يتواءم ويتلاءم وينسجم مع نمط حياة فيه شعور وهمي بالأمان.
ليست هذه المرة الأولى التي تثير تصريحات أيمن العودة إشكالات، ولكن المفاجئ في الأمر، هو الذي يتبنى خطابا يساوي به بين الضحية والجلاد، ولا يجد ما يقوله عن الأقصى مثلا إلا اقتحام “أوري أرئيل” الذي يجب: “علينا نحن جميعا”، كما يقول، أن نقف في وجهه، أي في وجه “أرئيل” واليمين المتطرف، ولكنه يفضل أن يتغاضى عن أنه عمل ما قبل الانتخابات من أجل إيصال مرشح “يساري وليبيرالي” اختار أن يفتتح خطاب النصر الموهوم له بعد ظهور نتائج الاستطلاعات بتراتيل توراتية، واختار أن يلتقط صورته، كجزء من عملية التسويق، مع قبعة بجانب حائط البراق.
النتيجة الطبيعية لهذا الخطاب خطاب “غير المرئيين” و”المعذبين” في الأرض هو أن تفقد خصوصيتك ومفرداتك وتاريخك، أو لا تكون ذا أهمية، لأن الصراع “سياسي” ولا يجب أن يكون”دينيا”، وهكذا يمكن إجراء تمييز بين مركبات الصراع، هناك من يجر الصراع إلى متاهات دينية، وهناك من يختار الصراع على أساس السياسة، وهي مقولة حاول البعض التأكيد من خلالها أن الصراع على السيادة وليس على العبادة. والحقيقة أنه لا فصل بين الاثنين من وجهة نظر المسلمين.
في الهروب من السياسي نحو المدني، تتغير معادلة “نحن” و”هم”، وفي استعاضة الحالة السياسية بالحالة المدنية تتبدل المسميات والمفردات كذلك، وتعاد تعبئة التاريخ والجغرافيا من جديد، ومن يهرب من “نحن” الفلسطينية واضحة المعالم إلى حجة اسمها “التسوية التاريخية” سيجد أن مقدمي البرامج التلفزيونية الذين يجتهدون في العموم للحفاظ على شيء من “الموضوعية” و”التوازن” والعلمانية، سيجدهم أمامه أشد حدة من “أوري أرئيل”، وأكثر تحريضا من “نفتالي بينيت”، وسيجد نفسه في نهاية اليوم لا هنا ولا هناك، شديد الرمادية، بدون موقف ولا عمود فقري، والمشكلة عنده تصبح في عدم القدرة على إصلاح شيء.
المسألة في الأقصى- بخلاف ما يعتقد أيمن- ليست “زيارات منظمة”، فهناك سياحة في كل مكان على الأرض، لكن هناك فرق كبير وشاسع بين السياحة بالعموم وبين سياحة “أوري أرئيل”، ومن منا لا يذكر “سياحة أريئيل شارون” في العام 2000 في الأقصى؟
والمسألة ليست تهدئة خواطر، يجب أن تكون لتجاوز سوء الفهم، هناك مشروع واضح المعالم لا ينكره أي طرف إسرائيلي، هناك وضوح أكبر وأكثر في أيامنا، حتى من أولئك الذين حاولوا في الماضي نسبة ما يحدث في القدس والأقصى إلى مجموعات يهودية متطرفة.
اليوم هناك تنافس حميم وغير مسبوق بين الأحزاب والشخصيات الإسرائيلية في التعبير بشكل واضح وصريح عن وجهة نظرها من “القدس الموحدة” ومن أهمية الهيكل وبناء الهيكل.
وهذا ما يتطلب موقفا واضحا من قبل العرب والفلسطينيين، بدون تأتأة وبدون إبداء تخوف من دخول الصراع إلى “متاهة دينية”.
الحديث بالعموم دون وضوح، وإعادة صياغة “نحن” و”هم” من جديد بحيث تتساوى الضحية بالجلاد، هو أمر خطير للغاية. وأعرف أن خطاب وزلات أيمن (وهي من وجهة نظره ليست زلات)، قد سببت إحراجا وبلبلة لدى شركاه، والمطلوب هو الوضوح في الموقف، وأن يحدد كل واحد من “نحن” ومن “هم”، بالذات في هذه المرحلة حيث الأمر في غاية الأهمية، لأنها مرحلة يجب أن يكون، بها الوضوح، سيد الموقف.
بدون توزيع شهادات لو سمحتم
يجب أن نكون واضحين، ونرجو أن لا يوزع أحد الشهادات على غيره، فكل من قدم ويقدم جهدا للمسجد الأقصى المبارك والقدس من أي نوع مشكورٌ عليه، وإن شاء الله مأجور أيضا.
وعلى رأس هؤلاء المرابطات اللواتي حُزنَ على مرتبة الريادة ببراعة، ومعهن المرابطون، وكل من يقف ويعمل ويتابع ويقدم أي جهد.
لا تتدخلوا في نوايا الناس، فهذه من اختصاص المولى عز وجل، ولا تنشغلوا بكلام لا نحتاجه في هذه المرحلة بالذات، ونكرر كلاما قلناه في السابق: حرصك وغيرتك على الإسلام لا يجب أن تخرجك عن توازنك، فالكلام مهم والمفردات أهم، والانفعالات لا تفيد كثيرا، هذا إن كانت لا تضر، والصمت إزاء الكلام السيء أفضل بكثير من الحصول على “لايكات”، واعذرونا إن كنا نقول الكلام بصراحة.
كل من كان في الأقصى دفاعا عنه مرحب به، ومرة أخرى لا تتدخلوا في النوايا، فنحن لسنا إلا عباد الله المدبر لكل أمر الذي يعلم “السر وأخفى”، ولا تتوانوا للحظة واحدة في الدفاع عن الحق والجهر به، لكن أيضا يجب أن تحسنوا الكلام والمفردات.

عبد الحكيم مفيد

l

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة