سباب تأخر النصر

تاريخ النشر: 30/07/15 | 16:00

قد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل ولا تجد لها سنداً إلا الله ولا متوجهاً إلا إليه وحده في الضراء، وهذه الصلة الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله. وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه أو تقاتل حمية لذاتها او تقاتل شجاعة أمام أعدائها والله يريد أن يكون الجهاد له وحدة وفي سبيله بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : الرجل يقاتل حميه، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى، فأيها في سبيل الله. فقال عليه الصلاة والسلام: ” من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله”. كما قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمه المؤمنة بقية من خير، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصاً ويذهب وحده هالكاً، لا تتلبس به ذرة من خير تذهف في الغمار!
وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم يتكشف زيفه للناس تماماً، فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشار الله أن يبقى الباطل حتى ينكشف عارياً للناس، ويذهب غير ماسوف عليه من ذي بقية. وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة، لو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار، فيظل الصراع قائماً حتى تتهياً النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ولاستبقائه!
من أجل هذا كله ومن أجل غيره مما يعلمه الله قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات وتتضاعف الآلام مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية. وللنصر تكاليفه وأعباءه حتى يتأذن الله به بعد استيفاء اسبابه وأداء ثمنه، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه:” ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور” فوعد الله المؤكد الوثيق المتحقق الذي لا يتخلف هو أن ينصر من ينصره فمن هم هؤلاء الذين ينصرون الله، فيستحقون نصر الله، القوي العزيز الذي لا يهزم من يتولاه؟ إنهم هؤلاء: “الذين إن مكناهم في الأرض” فحققنا لهم النصر وثبتنا لهم الأمر .. “أقاموا الصلاة” فعبدوا الله ووثقوا صلتهم به واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين ..”وآتوا الزكاة” فأدوا حق المال وانتصروا على شح النفس وتطهروا من الحرص وغلبوا وسوسة الشيطان وسدوا خلة الجماعة وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج وحققوا لها صفة الجسم الحي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.. “وأمروا بالمعروف” فدعوا إلى الخير والصلاح ودفعوا إليه الناس.. “نهوا عن المنكر” فقاوموا الشر والفساد وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التي لا تبقي على منكر وهي قادره على تغييره ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على تحقيقه هؤلاء هم الذين ينصرون الله إذ ينصرون نهجه الذي أراده للناس في الحياة معتزين بالله وحده دون سواه وهؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين. فهو النصر القائم على اسبابه ومقتضياته، المشروط بتكاليفه وأعبائه والأمر بعد ذلك لله يصرفه كيف يشاء فيبدل الهزيمة نصراً والنصر هزيمة عندما تختل كل القوائم أو تهمل التكاليف: ” لله عاقبة الأمور” إنه النصر الذي يؤدي إلى تحقيق المنهج الإلهي في الحياة من انتصار الحق والعدل والحرية المتجهة إلى الخير والصلاح المنظور فيه إلى هذه الغاية الذي يتوارى في ظلها الأشخاص والذوات والمطامع والشهوات وهو نصر له سببه وله ثمنه وله تكاليفه وله شروطه فلا يعطى لأحد جزافاً او محاياة ولا يبقى لأحد لا يحقق غايته ومقتضاه.

سيد قطب – رحمه الله

o

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة