حَفرٌ في الذاكرة

تاريخ النشر: 10/07/15 | 7:16

كأنّ الحفر يحدث في صدري، والنقر ينزل طارقا أبواب الذاكرة لم يكونوا يهدمون درج المنزل وينبشون التراب فقط، بل كانوا ينبشون أعماق روحي وهم لا يدرون أهوَ التراب يخرج من تحت الدرج؟ أم أن العمر ينزف أمامي لحظة بلحظة ودمعة ففرحة؟. كنتُ أشاهدهم يحملون أدوات القص والكسر والحفر، وتأتيني من الذاكرة أدوات مشابهة لها، أقل تقنية ربما، لكنها كانت تُستعمل في عكس ما يفعلون الآن شاهدتُ أبي المتوفى، يخرج من صدري، يقف أمامي، يربتُ على كتفي، ثم يشير لي بإصبعه أين أبدأ البناء وكيف أجمل شاكلته.
رأيتُ ابتسامة زوجتي أمامي وهي تروح وتجيء حاملة ابنتنا الصغيرة، باكورة الأسرة، فرِحة بتحقيق حلمنا الجديد بإنشاء بيت صغير دافئ لنا بعدما عانينا في بيت قديم مؤقت يدلف. كانت ابنتي حينها في عامها الثاني، أذكر وجهها حين ركضت إليّ بحذاء واحد. حملتها وضممتها إلى صدري وسألتها عن حذائها الضائع. لا زلتُ أشم رائحتها المدموجة بالحليب والتراب، ثم تداعت إليّ مع استمرارهم في الحفر، صور بقية أولادي وهم يولدون واحدا إثر الآخر، ينبضون بالحياة، وتنبض فيهم. هنا، في هذا المنزل الوديع. كلما أمعنوا الهدم أكثر، تصاعدت إلي عيني خطوات أبنائي الأولى، نموّهم، كِبر أسرتنا، دخولهم المدارس، تخرجهم من الجامعات، خروجهم للدنيا، زواج ابنتي الأولى ثم الثانية فالثالثة، قدوم أحفادي واحدا تلو الآخر، وحبيبا تلو حبيب، وسؤالي الحائر دوما: أيهم أغلى، حفيدي أم ولدي؟
ها نحنُ الآن نهدم جزءا من البيت لنبني آخرين جديدين لابنيّ الأصغرين، هما أيضا سيبدآن حياتهما كأبيهما، سينشآن أسرة لهما، ويخوضان غمار العمر أتراها حياتنا كذلك؟ نهدم أشياء لنبني أخرى؟
أيقظني من شرودي، هتاف الرجل وقد وصل الدرجة الأخيرة، موشكا على الإنهاء. أتى يحمل شيئا صغيرا أخرجه من الركام، شيئا قديما جدا، يعلوه التراب والطين.. يعطيني إياه.
نظرتُ إليه، وابتسمتُ حين حملته: إنه حذاء فتاة في الثانية من عمرها، يناسب ابنتها وقد صارت في هذه السن.

أحلام رحال

66

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة