من شكاوي المبدعين في الأرض: شحادون يا بلدي

تاريخ النشر: 28/04/15 | 7:49

أعتقد.. بل أنّني على يقين.. حينما يلاحظ بعض الأهالي أنّ لدى أبنائهم ميولًا فنّيّة أو أدبية، يقومون بتشجيعهم بقدر المستطاع، آخذين بعين الاعتبار أن ما يقومون به هو مجرّد هواية، إلى جانب المهنة التي يطمحون إليها، دون أخذ ميول الولد الحقيقية بعين الاعتبار.
تتّجه طموحات الأهل دائمًا نحو المواضيع الأكاديمية المربحة، مثل الطب والهندسة والمحاماة وما إلى ذلك. لكن بمجرد أن يفكّر الطالب بأنّه سيصبح كاتبًا أو فنانًا أو شاعرًا، وأن تكون هذه مهنته المستقبليّة، تبدأ العقبات. فبعد التروي وإمعان الفكر، تتكشف نوايا الأهل الحقيقية، وتدلهمُّ سماؤهم، وهنا ينقلب التشجيع إلى تحطيم، بجميع الحجج والمعاذير، بأن مثل هذه المهن دونية المكانة والمركز، ولا تطعم خبزًا، متجاهلين بأن الابن سيقوم بالتحدي بجميع الوسائل المتاحة وغير المتاحة، ويبدأ صراع الأجيال. ينتصر في هذا الصراع الأهل غالبًا، لأنهم يجلسون على خزنة التمويل، لكنّ الابناء أصحاب الإرادة القويّة، يسيرون بطريقهم التي رسموها لأنفسهم حتّى النهاية.. يقوم الكثيرون منهم بخداع أصحاب الخزنة (الأهل)، ويوهمونهم بأنهم يسيرون على الدرب التي رسموها لهم، لكنّهم في الحقيقة ينفّذون ما يطمحون إليه ويتنسمون نسيم الفن والأدب. وحتّى يصل أحدهم إلى عالم الأدب والفن ويصبح من بين المعروفين، يكون الثمن باهظًا، مسيرة عذاب ينفطر لها الفؤاد. لكن في النهاية، يعرفهم الناس، يقرأون لهم، يشاهدون أعمالهم وأعمال غيرهم.
بعد أن يصبح المبدع من المشاهير، تنقلب حالة الأهل، ويبدأون بالافتخار به: هذا ابني.. هذا ابن عمي.. قريبي وجاري، وينسون أنهم أنفسهم كانوا عائقًا أمامه في ما مضى، وتأخذ الأستار ترتفع سترًا بعد ستر..
سأكاشفكم بما أضمر دون مواربة أو خفاء.. الطّامة الكبرى تكون عندما تبدأ بعض المؤسسات بدعوة هذا الكاتب أو الفنان أو الشاعر إلى المدارس والمراكز الجماهيرية والنوادي وغيرها، لا يأخذون بعين الاعتبار، أن هذا المبدع يحتاج إلى المال لكي يعيش مثله مثل باقي البشر. يطالبونه أن يتطوع، بينما في نفس الوقت لا يطلبون من أي طبيب أو محام أو اي من أصحاب المهن التي تدرّ الكثير من المال وتلقّت الدعم من الجميع في أثناء فترة تعليمهم، وهكذا يبقون الفقير فقيرًا والغني أغنى.
ولأن المبدعين يتعاملون مع المثاليات، فانهم يقومون أحيانا بتلبية طلب مؤسسة معينة، تنشد عونهم، ويحضرون بدون تقاضي أجر، آخذين بعين الاعتبار بأن هذه ضريبة الشهرة بلا مداورات أو محاورات رغم أنهم يعيشون أيام فاقة، ولا يجدون أحيانا ثمن علبة سجائر وقدح من القهوة. ولأن الفنان المبدع ذو كرامة فانه يأبى أن يمرغها بالتراب، ولا يفتأ يمنّي النفس بأن يصبح يومًا ما من كبار المبدعين.
***
في الساعة الثالثة بعد ظهر يوم السبت، ذهبت إلى السوق لأتسوق واشتري بعض الخضار، فالأسعار رخيصة جدًّا في نهاية الاسبوع، لأن يوم الاحد يأتي بعد السبت، وهو اليوم الذي تقفل الحوانيت فيه أبوابها، لذلك تبدأ الأسعار بالنزول حتّى يتخلص منها أصحاب الحوانيت ولا تبقى مخزونة لديهم ليوم الاثنين.. حين دخلت حانوت الخضروات، التقيت صدفة مع المربية كفاح، وهي التي كانت قد درّست ابنائي في صغرهم، امرأة جمّة المطامع، تشتعل نيران حقدها على كل ما يحيط بها. التقطتني جهارًا نهارًا، رمقتني بنظرات غضب، وصاحت بصوت أسبغ عليه الانفعال تهدّجًا ملحوظًا..
– أنا غاضبة عليك، تصرفك لا يليق بشخصك، أصبحت إنسانة مادّيّة، ترفضين أن تأتي إلى مدرستنا للقاء الطلبة مجانًا، مع أنّك قبل سنتين، دخلت إلى كل صفوف الرابعة والخامسة بدون مقابل، فماذا عدا ممّا بدا، تخادعين وتتظاهرين بالعفاف. أين مثاليّاتك أيتها المادّيّة؟
– جلّ ما طلبته منكم مبلغ رمزي، تغطية لما أدفعه من جيبي لأصل إليكم!
– ولكنك في الماضي، لم تطلبي أجرًا وطوّقنا عنقك بأفضالنا؟
– أيّة أفضال؟
– لقد عرّفنا الطلبة وأهاليهم على إبداعك!
– شكرا لكم ايتها المربية، عفا الله عما مضى، اليوم، عشرات المدارس تطلبني ولا استطيع زيارتها دون تعويضي عن تكاليف السفر وعن تعطيل شغلي الذي أعتاش منه..
– تغيّرت كثيرًا أيتها الكاتبة، أصبحت مغرورة..
– كما أعلم، راتبك أعلى من راتبي، فهل أستطيع دعوتك كمربية أجيال لتقديم محاضرة وتسافرين بسيارتك لمدة ساعتين ذهابًا وإيابًا من أجل المثاليات التي تتحدثين عنها؟
– لا، وألف لا، لأنني لا أحب السفر.. ثمّ ان مهنة المعلم هي مهنة شاقّة جدًّا ومضنية، ولا يمكنني أن اتطوّع وأن أتبرع للغير مجّانًا أو بمقابل ذلك.
– لا أستطيع أيّتها المربية، أن أعطّل عملي وأسافر بسيارتي وأخسر يوم عمل كاملا من أجل التطوّع، وكان عليكم أن تشكروني لأنني لبيت طلبكم وتطوّعت في السابق، واستضفتموني في السنة الماضية وكنت عند حسن الضيافة.
تغيّرت لهجة المربية وقالت: الحقيقة، انني أخبرت طاقم المعلمين بما أمليته عليّ، بأنّنا لا يمكننا أن نستضيفك مرّة أخرى ومجّانًا، ولكنهم في النهاية استضافوا مبدعًا آخر ودفعوا له ثلاثة أضعاف ما طلبته أنت.
شعرت بثقل ظلها، وفقر أفكار هذه المربية، وهي تجرّني إلى عالم المماحكات والمشاحنات التي أنا في غنى عنها.. على مرأى ومسمع منها، قلت لبائع الخضروات الذي سمع ما دار بيني وبين المربية، بعد أن تفتّق ذهني عن فكرة: أيّها البائع الطيب.. هل تستطيع أن تعطيني الخضروات مجّانا، لأني أريد أن أدفع من جيبي أجرة الطريق إلى مدرسة صديقتي هذه، وسأخسر يوم عمل في مكان عملي..
أجاب البائع بجدّيّة مصطنعة: أستطيع أن أعطيك حبّة من كل نوع، ولكن عليك أن تدفعي ثمن الباقي..
نظرت إلى المدرّسة وقلت لها: لقد أعطيتكم الحبّة المجّانية في السابق، وعليكم الآن أن تدفعوا ثمن الباقي…!

بقلم: ميسون أسدي

sh7adon

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة