امرأة الرسالة للأديبة رجاء بكرية

تاريخ النشر: 27/04/15 | 12:30

اليوم انتهيتُ من قراءة الرواية / الرسالة وكان رأسي يعجُّ بأحداثها، أدركتُ الآن كيف تسافر الكلمات على متن الرّيحِ من عكّا إلى لندن “مدينة الثلج والكستناء ” هكذا عشتُ الحب بين ” نشوة وغسّיن” المقم في لندن و”نشوة الفلسطينية الفاتنة ابنة عكّا ” امرأة الرسالة ” بطلة العطر والذاكرة. في خضمّ حبّها وجنونها بغسّان على هذه الجغرافيا بين وطنٍ قابعٍ تحت الاحتلال وبين مدينةٍ بيضاء يدثّرها الثلج يعيش الرجل الراحل فيها والباحث عن أوراق حبٍّ آتٍ من أنوثةٍ محاصرةٍ وتحاول هي أيضاً السفر إليه والمكوث في أحضانهِ للعثور على دفئهِ في طقسٍ لندنيٍّ باردٍ ، هنا يكتمل المعنى في مشاهد العشق وروائعهِ النابض بسحرٍ خفيٍّ كضباب المدينة البيضاء.
عبرَ أسلوبٍ مشحونٍ بلغةٍ شعريةِ المذاق والروح تأخذنا إلى ذاك الحلم الطهور في حنين امرأةٍ إلى رجلٍ يقتلها بأسئلتهِ عن “فلسطينيّتها ” التي لا تكفُّ عن التّأكيد، بأنّها ما زالت محتلة. هنا تبدأ الرواية، تشتعل الرؤية وتصهل فصولها في سماءٍ ترتدي ثوب الغيوم وتبدأ الرسالة المثخنة بالأشواق والاحتراق، ونابليون المشتبه به، ذاك الرجل الذي يستعد للمعركة تقول، “جئتَ مثل نابليون في أحد الأيّام المحصّنة ضدّ كل أشكال الغزو ،كانت عكّا يومها مستعدّة للقهر فقط ، وكان القائد المغوار مستعدّاً للنزال فقط ، شكل اللقاء كان خطّة مواجهة لا يمكن ان يخرج الطرفان منها متعادلين” أهو نابليون حقا؟ القائد المغوار الّذي جاء مستًعداً للنزال فقط؟ أم أنّه غسّان البطل يتقمّص دوره أيضا؟ وهل النهاية تفرض شكلاً من أشكال الهزيمة، أم الإنتصار؟ هذا هو السّؤال! هو ذات السّؤال الّذي هجست به “نشوة” في الرواية، ولم تجتهد في الإجابة عليه. كأننا عبر هذا التّداخل بين الفرضيتين نعثر، هنا، على الترابط بين رسالتي العاشقين، والمدينتين. وبين عكّا ولندن يتبادل الغرباء / العشّاق رسائلهم واغترابهم في شهوة عشقٍ فجريٍّ، وسط الصقيعِ، وعلى صوت فيروز الصباحيّ الطالع من ثوب العتمة إلى ألوان الضوء. ذوبان ” نشوة، وأنوثتها أمام” غسّان” يشعل فينا تلك النصوص الملحميّة التي تأخذنا إلى ” قيس وليلى ” وقصائد الحبّ القديمة التي زرعت فينا معنى الحب. نصّ يثير رمزية الحدس العاطفي، وتشظياته على صهوةِ الكلمات ومعانى الحرية.
هو خطاب الحب بين طائرين يحملان الرسالة بمنقار القبلات العابرة من فصلٍ إلى فصلٍ وسط السحاب. مشهد عكّا البحري / شرفات لندن المبللة بالثلج الأبيض / ومسرح الغرباء الّذي تعمل فيه، مقابل مسرح السّرايا في يافا الذي كان ملاذاً لغسّان وفنّهِ. في المدينتين ايقاع النشيد الذي يُنشد لهما، عال بعلوّ الموج. هو ذات العلوّ لايقاع المدن التي عبرا منها الإثنين إلى أحلامهم الخاصة. لغسّان الفنان مشاريع حياة, وللوحاتهِ معنى آخر, كلما تأمل وجهها من زجاج البحر، حيث تواصل ” نشوة” رسالتها، وتغرق بالدمعِ والبوح بأسرارها لغسّان. في وصف اختلاجات قلبها الصارخ في رغبةٍ ما تحت الشتاء. متى نلتقي غسّان ؟ تهمسُ وهي تنتظرهُ هناك على سريرٍ حارٍ، أنا وأنت وتبكي. تضيء اللوحة بألوانها ومعناها وتنضجُ الفكرة بها.
هكذا جسّدت الرواية ذالك الالتحام العاطفي، عالي النبرة في فصولٍ من مطرٍ رومانسيٍّ وولجت عالما ملحميّ الحب والحرية ، شفيف الألم والآهات في نبضات العشّاق وأمكنتهم المحاصرة وأزمنتهم / حرب الخليج حيث كان ” وائل”. إلى العراق ، البصرة حيث كان “كاظم” هكذا تواصل الرسالة طيرانها فوق مدن العشق الرحبة في فضاءاها الأرحب ونداءاتها لعشّاقها الباحثين عنها الظمأى لها. عن نشوتها وأسمائها في ساعة انتظار البريد على شارع التوت ، هل وصلت الرسالة ؟ رسالة الأنثى المكتوبة بيدٍ من وردٍ، في اليد الواحدة، وباقة شوكٍ في الثانية، يعزّزها خيال امرأةٍ وفكر امرأةٍ أنضجته التّجربة، حين تقول:
” فكر المرأة يوثق بانوثةٍ عالية هواجسهِ ، فكر المرأة لا ينسى مرجعيتهِ حين يُعلن جدّيتهِ هكذا يعلِّم لؤم الرجال النساء النبش في ثقوب الألم”
يحب الرجل دائماً أن يكون كل الحكاية مثلما قالها هو ل ” نشوة ” أمام عراء البحر، وأضاف بأنّه لا يفهم الألغاز كثيراً ، هل كانت تكذب ام أنّها فعلا لا تفهم هذا الكلام؟ الخارج من قلب غسان بحرارة دمهِ. كلام غسّان هو كلام كل الرجال في هذا العصر حين تمتزج الصور بالمشاعر الجيّاشة أمام البحر. أمام هدوءٍ نسبيٍّ تكثر لغة الحنين إصرارا على البقاء معاً. وهي، كلما نطقت باسم ” غسّان” يصير للموج طعم الذاكرة ، ما أقوى علاقة البحر بالرسائل، والميناء بالانتظار والنوارس بالحنين العاطفي إلى قبلةٍ عابرة. جسدان يتعانقان أمام الغروب والشفق يضيء بالأحمر وجهيهما. هما لا يزالان، هما أبناء البحر. تضيء الرواية في سردها وتواصل نشيدها ومسيرتها بين مدينتين حين تسأل: “هل يركض الحب في حيفا كما يركض في لندن” ؟ لندن وحيفا حيث العاشق والمعشوق يتبادلان الحب من بعدٍ جغرافيٍّ تقرّبه روحيهما. بوحٌ حميميّ الجسد والحسّ في آن. والخفقُ الحسيّ في المعنى المحمول على ورق الأسرار والأشواق بين اثنين من ضوء القمر يشعل حنين المسافة.
وفي الخاتمة تبدأ ” نشوة ” تتحسس حملها القادم. مفتاح عودتها ل”غسّان الكبير” ولقائه بغسّانهُ الصغير المحمول على وهن البطلة، “نشوة”. لقد اتضح المشهد والمصير في النهاية مصير الحب اللندنيّ شديد البرودة والاغتراب معاً حيث وصلت الرسالة ، فوقّعت على غلافها “امرأة الرسالة” مبللة بالملح تحمل رائحة “عكّا وأمواجها ” لتحرس الحب من الفقد. وصلت الرسالة إلى رجل المرأة، غسّان الكبير”، ربّما إيذانا بأنّ غسّان الصغير سيعيش في مكانٍ قصيٍّ، على متن سفينة حتّى يصل إليه، عنه تقول نشوة:
“هيىءْ لهُ أرجوك سريراً من قطنِ البحر ”
فهل سيعيش غسّان الصّغير على حدود الأمكنة، حكاية تشبه حكاية العاشقين، بين بحرٍ وبحرٍ، هي ردم المسافة بين سور عكّا، وضباب لندن؟ هل سيعود بهما لذات المكان،الذي يصبو لاكتمال حبٍّ فلسطينيّ الملامح والفكرة. هكذا يظلّ العشق في المرأة والرّسالة مفتوحا على أشواق المدينة. كانت عكّا وظلّت عكّا

باسل عبد العال

02

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة