السمكة والفراشة

تاريخ النشر: 06/05/15 | 9:57

كَانت السّمكةُ الصّفراءُ الصَّغيرةُ تسكُنُ نهراً كبيراً، ذو مياهٍ عذبةٍ وصافية، تتزينُ ضفّتاهُ بالأعشابِ المتدلّية، والأزهارِ المتألّقة، ذاتِ الرّائحةِ الزّكيّة، فلا يخلوُ محيطهُ أبدا منَ الزّوّار.
في صباحِ أحدِ الأيّامِ، بينما كانت تلعبُ و تقفزُ هنا و هناكْ، تغوصُ تارةً و تظهرُ تارةً أخرى، إذْ بها تسمعُ صوتاً رقيقاً يُحدِّثها: ما أجملكِ أيَّتها السَّمكةُ الظَّريفةُ، بريقكِ و حركاتكِ يغْمُرانِ المكانَ بالنّشاطِ و الحيويّة، فشعرتْ بالكثيرِ منَ الإطراءِ،وأطَلَّتْ برأسِهاَ منَ المياهِ المتحرِّكَةِ،تبحثُ عنْ مصدرِ الصّوتِ، عنْدما جذبها جمالُ فراشةٍ جميلةٍ تقفُ على إِحدى الأزهارِ، تفرضُ جَناحيْها المُلوَّنتينِ،فابتسمتْ و ردَّتْ بنفْسِ الكلامِ:أنتِ أيضاً جميلةٌ جداً أيَّتها الفراشة، وألوانكِ تَبْهَرُ النَّظر، كمْ أنا سعيدةٌ برؤْيتك.
وكانتْ هاتانِ الجُمْلتينِ بدايةً لصداقَتِهما، و ظلَّتا تلعبانِ معاً لبعض الوقت، فكانتْ السَّمكةُ تظْهرُ و تخْتفي، تغوصُ ثمَّ تخرجُ و هيَ تصنعُ فقّاعاتٍ كبيرةً و صغيرةً،و تنثرُ بعضَ قطراتِ الماءِ بذيْلها على الهواءِ، فتبلِّلُ الفَراشةَ الّتي كانَتْ تُحلِّقُ وتحُومُ حوْلها، فَتفِرُّ أعْلى و أعْلى،تنْفُضُ جِسْمَها،و هيَ تتراقصُ بحركاتٍ رشيقةٍ، و تضْحكانِ معاً و تمرحانِ، إلى أنْ لمحتْ السَّمكةُ حشرةً صغيرةً جداً تطْفو فوْق الماء، فَهَمَّتْ بالْتقاطِها، لكنَّ حركةَ المياهِ سحبْتها بعيداً، فقرَّرتْ أنْ تلْحَقَ بها تاركةً رفِيقَتها بمُفردِها.
وعنْدها،استوْقفتْها الفراشةُ قائلةً: لا ترْحلي يا صَديقَتي، إبْقَيْ معي مزيداً منَ الوقتِ.
فردَّتْ السَّمكةُ: لا يُمكنُني البقاء يا أجْمل صديقَة، يجبُ أنْ أصْطادَ غِذائي، لكنْ، أعِدُكِ أنَّني سَأعودُ لِنلعبَ معاً منْ جديدٍ في نفْسِ المَكان، فهلْ تعِدينَني أنَّك سَتكونينَ هُنا؟
هزَّتْ الفراشةُ رأْسَها قائِلةً: نعمْ، أعدُكِ وسأنتظرُ عودتكِ بفارغِ الصّبر.
غادرتْ السَّمكةُ المكانَ و غابتْ عن الأنظار، و ظلَّتْ الفراشةُ تنْتظِرُها.
وفي اليومِ التَّالي تذكّرتْ السّمكة وعْدَها لصَديقَتِها،فعادتْ إلى المَكانِ نفسهِ مشتاقة لرُؤْيتها، و ظلَّتْ تنْتظِرُ ظُهورَها طَويلاً،لكنَّها لمْ تَظْهرْ، فعادتْ أدْراجها حزينةً، رغمَ أنَّها لمْ تيْأسْ، و عادتْ في اليومِ الثَّاني على أملِ أنْ َتجِدهاَ هذهِ المرَّة…….و لمْ تجِدْها كذلِك. و رجعتْ منْ حيثُ أتتْ خائبةً، تشْعرُ بالإحْباط.
و في اليومِ الثالثِ قرَّرتْ أنْ تمْنحَها آخرَ فُرصةٍ، فاتَّجهتْ إلى مكانِ الميعَاد و قَضتْ اليوْمَ بأكْملهِ تترقَّبُ حُضورها دونَ جَدوَى،إلى أنْ بدأتِ الشَّمسُ تغيبُ خلْفَ الجبال، فتملَّكَها الغضبُ، و لمْ تُطِقْ صبراً،فَراحتْ تُحدِّثُ نفْسَها، و تصيحُ وتصْرخُ بأعْلى صوتِها: أيْنَ أنتِ أيَّتها المخادِعة؟ لماذا لمْ تعُودي؟ لقدْ كذِبتِ علَي، لقدْ انْتظرْتُكِ طويلاً، لكنَّك ذهبتِ و نسَيْتني، أيتَّها الكاذِبة لقدْ وعَدتِني و لمْ تفِ بوعدكِ لي…….
وإذْ هيِ على تلْكَ الحالِ، أزْعجَ صوتُها سُلحفاةً كانتْ تنامُ داخلَ بيتها متخفِّيةً بينِ الأعْشابِ، فأخرجتْ رأسَها و أطْرافَها و تقدَّمتْ نحْوهَا ببطءٍ،و هيَ تسْألها عنْ سببِ الفوْضى و الصّراخ: ما بكِ أيَّتها السَّمكةُ المُزْعجة؟ لِماذا تصيحينَ هَكذا؟ لَقَدْ أيْقظْتِني مِنْ نَوْمي.فردَّتْ السَّمكةُ علْيها بِأسَفٍ و حُزنٍ: أنا آسِفةٌ سيِّدة سُلحفاةْ، لكنَّني حَزينةٌ جداً، فقدْ خدَعتْني صَديقَتي الفَراشَة.لقدْ أحبْبتُها كثِيراً وصَدَّقْتُها، وعدَتْني بأنَّهَا ستعُودُ لِنلْعبَ معاً، لكنَّها ترَكتْني و نسِيَتْني.
وعنْدَها ضحِكتِ السُّلحفاةُ عالِياً، فسألْتها السَّمكةُ مُسْتغربَةً: ما المُضحِكُ في الأمْر؟
وردَّتْ السُّلحفاة: يا صَغيرَتي، لا تتسرَّعي أبداً في الحُكْمِ على أحدٍ منْ غير ِعلمٍ، فلربَّما تَظْلمينَ صدِيقتَكِ بحُكمِكِ عليْها.

صاحتْ السَّمكةُ مُتسائلةً: أظْلِمُها؟ لقَدْ انتظرْتُها ثَلاثةَ أيامٍ بأِكملِها و لمْ تأْتِ، إلتزمْتُ بوعْدي لهَا،و هيَ التي أخْلفتْ وعْدَها لي، فَفِيمَ ظلمتُها إذاً؟.

فَأجابتْها السُّلحفاةُ: يا بُنيَّتي،حياةُ الفرَاشاتِ قَصِيرةٌ حدّاً، بعضُها تعيشُ أسْبوعاً أو أسْبوعين، و بعضُها لا تعِيشُ أكثرَ منْ يوْمٍ واحدٍ فقطْ، و ربَّما لمْ تتمكَّنْ منَ العوْدةِ في اليومِ الثَّاني، إذاَ كانتْ حياتُها قدْ انتهتْ قبْله.
وحينهَا صُدِمتْ السَّمكةُ بِما عَلِمَتهُ لتوِّها و حَزنتْ على رفِيقَتِها و تمنَّتْ لوْ أنَّها لمْ تُفارقْها أبداً في ذلِكَ اليوْم، ورفعتْ رأسَها تنظُرُ إلى السُّلحفاةِ تسْألُها: هلْ تعْتقِدينَ أنَّها انْتظرَتْني؟
فَقالتْ السُّلحفاةُ: نَعمْ، أعتقدُ أنَّها انْتظرَتْكِ، لكنَّكِ لمْ تأتِ في الوقْتِ المُناسِب.فالتَمِسي لصدِيقَتِكِ ألْفَ عُذرٍ.
وبَكتْ السَّمكةُ الحَزينةُ ندَماً على أنَّها ظَلمتْ صديقَتَها و ظنَّتْ بِها سُوءاً،لكِنَّ السُّلحفاةَ ربَّتتْ عَلى رأسِها تُّطمْئِنُها و تُواسِيها: لا تحْزَني أيَّتها السَّمكةُ الوفيَّةُ، فصَديقتُكِ الفَراشةُ لمْ تَحْزَنْ،و رغْمَ قِصَرِ مُدَّةِ حَياتِها، إلاَّ أنَّهَا أتْقنَتْ اسْتِغْلالَها بشَكْلٍ جيِّدٍ و مُفِيد، و أدَّتْ وظِيفَتها التي خُلِقتْ منْ أجْلِها عَلى أكْملِ وجْه، فهِي تطِيرُ في الهَواءِ فرَحاً و مرَحاً، تُمتِّعُ الأنْظارَ بجَمالِها و تُزيِّنُ الحدائِقَ و المُرُوج، و تُلقِّحُ الأزْهارَ، فانْطلِقي أنْتِ أيْضاً إِلى مُهمَّتِك، و تذكَّريها دائماً.
وحِينَها انْطلقتْ السَّمكةُ الصَّغيرةُ الصَّفْراءُ سَعيدَةٍ، تقُومُ بِوظِيفَتِها في الحَياةِ، دُونَ أنْ تنْسَى الفَراشَةَ الجَمِيلةَ، و لا الدَّرسَ الذي تعلَّمَتْه.

5

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة