الاستقامة سبيل السلامة

تاريخ النشر: 19/04/15 | 12:50

الاستقامة من المعاني الجليلة الجامعة كالبر والمروءة والإحسان والمعروف .. لذلك نجد تعريفاتها تتنوع فقال عمر -رضي الله عنه-: “أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعلب”. وقال الربيع بن خيثم رحمه الله: “الإعراض عما سوى الله”. ولكي لا يأخذ البعض هذه المفاهيم ويجنحوا للتكلف والتشدد نجد شيخ الإسلام الهروي رحمه الله يعرفها بقوله: “الاجتهاد في اقتصاد”.
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: إن معاذ بن جبل أراد سفراً فقال: يا رسول الله، أوصني؟ قال: “اعبد الله لا تشرك به شيئاً”. قال: يا رسول الله، زدني. قال: “إذا أسأت فأحسن”. قال: يا رسول الله، زد. قال: “استقم ولتحسن خلقك”. [صحيح: رواه الحاكم ووافقه الذهبي].
قال السِّرِّي السَّقطي – رحمه الله تعالى -: “خمس من كن فيه فهو شجاع بطل: استقامة على أمر الله ليس فيها روغان. واجتهاد ليس معه سهو. وتيقظ ليس معه غفلة. ومراقبة الله في السر والجهر ليس معه رياء. ومراقبة الموت بالتأهب” [الحلية:10/117].

مراتب الاستقامة
باب الاستقامة الدعاء والتضرع، والسعيد من وفقه الله تعالى، ولذلك أمرنا الوهاب المنان بقراءة الفاتحة في كل ركعة، لما فيها من سؤال الصراط المستقيم المخالف لأصحاب الجحيم. وقال تعالى في شأن موسى وأخيه عليهما السلام: {قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}..[يونس:89].
أما سبيل الاستقامة فهو لزوم معالم وشعائر الدين الباطنة والظاهرة، العقدية والعملية، فعن سفيان بن عبد الله الثقفي -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: “قل آمنتُ بالله ثم استقم”. [مسلم] .
قال ابن عاشور: {ثم} للتراخي الرتبي: وهو الارتقاء والتدرج، فإن مراعاة الاستقامة أشق من حصول الإيمان لاحتياجها إلى تكرر مراقبة النفس، فأما الإيمان فالنظر يقتضيه واعتقاده يحصل دفعة لا يحتاج إلى تجديد ملاحظة.
قال ابن القيم في «الوابل الصيب»: “الأمر الذي يستقيم به القلب تعظيم الأمر والنهي، وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذم من لا يعظم أمره ونهيه، قال سبحانه وتعالى: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً}..[نوح:13]”.
أما آفات وكبوات الطريق من التقصير والتفريط فليس لها إلا الاستغفار، قال تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}..[فصلت:6] فالإنسان عرضة للنقص لكن يجبر ذلك بالاستغفار لله الواحد القهار.

الاستقامة الدين كله
الاستقامة ركن عظيم يشمل الدين كله، لذلك قصرت همم الخلق أن يمسكوا بكافة أطرافه، فعَنْ عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: “لَوْ صَلَّيْتُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالْحَنَايَا، وَصُمْتُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالْأُوْتَارِ، ثُمَّ كَانَ الِاثْنَانِ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الْوَاحِدِ، لَمْ تَبْلُغُوا الاسْتِقَامَةَ “أي الاستقامة الكاملة، وكأنه أخذ هذا المعنى من قول النبي صلى الله عليه وسلم:
“استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن” [رواه أحمد].
قال المناوي: استقيموا على الطريق الحسنى وسددوا وقاربوا فإنكم لن تطيقوا الإحاطة في الأعمال، ولابد للمخلوق من تقصير وملال، وكأن القصد به تنبيه المكلف على رؤية التقصير وتحريضه على الجد لئلا يتكل على عمله، ولهذا قال القاضي: “أخبرهم بعد الأمر بذلك أنهم لا يقدرون على إيفاء حقه والبلوغ إلى غايته لئلا يغفلوا عنه، فكأنه يقول لا تتكلفوا على ما تأتون به ولا تيأسوا من رحمة الله ربكم فيما تذرون عجزاً وقصوراً لا تقصيراً”.
“واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة” أي فإن لم تطيقوا ما أمرتم به من الاستقامة فحق عليكم أن تلزموا بعضها وهو «الصلاة» الجامعة لكل عبادة من قراءة وتسبيح وتكبير وتهليل، وإمساك عن كلام البشر والمفطرات، وهي معراج المؤمن ومقربته إلى جناب حضرة الأقدس، فالزموها وأقيموا حدودها لاسيما مقدمتها التي هي شطر الإيمان فحافظوا عليها فإنه لا يحافظ عليه إلا مؤمن راسخ القدم في التقوى. ‌
وقال -صلى الله عليه وسلم-: “إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم” [مسلم] وهذا في المستحبات لا الوجبات التي قد تسقط مع العجز.
ولذلك قيل: “الاستقامة لا يطيقها إلاَّ الأكابر لأنَّها الخروج عن المعهودات، ومفارقة الرُّسوم والعادات، وهي الخصلة الَّتي بها كملت المحاسن”.
عن خارجة بن مصعب، قال: “صحبت عبد الله بن عون أربعاً وعشرين سنة، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة!” [سير أعلام النبلاء 6/366] وقال الإمام ابن دقيق العيد -رحمه الله-: “ما تكلمت كلمة، ولا فعلت فعلاً، إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله – عز وجل –”. [طبقات الشافعية 9/212].

ثمرات وخيرات
قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ الله}..[القصص:50] فإن لم يكن في الاستقامة إلا طمأنينة النفس وصلاح الأحوال لكفى، بل يبشر الله عباده المستقيمين على دينه بأعظم بشارة تتمناها النفس، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}..[فصلت:30-32] أي تتنزل عليهم الملائكة عند الموت وعند الخروج من القبر.
وذكر (التنزل) هنا للتنويه بشأن المؤمنين أن الملائكة ينزلون من علوياتهم لأجلهم، فأما أعداء الله فيجدون الملائكة حاضرين في المحشر يزعونهم ولا يتنزلون لأجلهم {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}..[فصلت:19] فثبت للمؤمنين بهذا كرامة ككرامة الأنبياء والمرسلين.
{أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} ولما كان الخوف مما يتوقع من المكروه أعظم من الحزن على الفائت قَدَّمه، ثم لما وقع الأمن لهم، بشروا بما يؤولون إليه من دخول الجنة، فحصل لهم من الأمن التام والسرور العظيم بما فعلوا من الخير.
قال محمد بن علي الترمذي: تتنزل عليهم ملائكة الرحمة، عند مفارقة الأرواح الأبدان، ألا تخافوا سلب الإيمان، ولا تحزنوا على ما كان من العصيان، وأبشروا بدخول الجنان، التي تُوعدون في سالف الأزمان {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}..[الروم:44] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}..[الأحقاف:13-14] فنفى عنهم الخوف من المستقبل، والحزن على ما سلف ومضى، ووعدهم صدقا الجنة. وقوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} تدل على الاختصاص بالجنة ولم يقل (أولئك في الجنة، أو أولئك لهم الجنة).

نصيحة غالية
قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}..[هود:112] فذكر سبحانه شيئين بعد الاستقامة: لزوم التوبة ومجافاة الطغيان، لأن الذي يعرض للعبد ويحرفه عن الاستقامة إما الذنب وإما البدعة أو الغلو.
فالحمد لله الذي هدانا لشرعه القويم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا}..[الأنعام:161] .. (قِيَمًا) أي: أي معتدلاً مستقيماً لا عوج فيه، ولا غلو فيه ولا جفاء، ولا جحود فيه ولا جمود، ولا إفراط ولا تفريط، ولا اعوجاج، إنما هو أمر مستقيم شرع معتدل، وسط في كل شيء.

01

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة