أوباما وأميركا: فجوة في الثقة بالنفس

تاريخ النشر: 29/01/15 | 7:28

تابعت كعادتي خطاب «حال الاتحاد» الذي ألقاه الرئيس أوباما قبل أيام أمام مجلسي الكونغرس. تابعته وأنا أعلم أن الخطاب وحده، برغم أهميته، لن يكون الوثيقة الوحيدة التي تسجل إنجازات إدارة أميركية خلال العام المنصرم، فالخطاب في مجمله صناعة بيروقراطية، وبالتالي يصعب على صائغيه مراعاة الموضوعية. وهو أيضا حق شخصي للرئيس ليترك للتاريخ تقييما بالضرورة منحازا له، فضلا عن أنه حق لحزب الرئيس ليستعد به لانتخابات رئاسية قادمة. وهو في النهاية طقس من طقوس الوثنية الأميركية التي تحيط الرئاسة ورموز الشرعية بهالات تقديس وتفخيم. ومع ذلك يبقى الخطاب في أقل القليل تقرير متابعة ضروريا لكل مهتم بالولايات المتحدة الأميركية. وفي اعتقادي، إن المهتمين ما زالوا كثيرين في شتى أنحاء العالم.
آخذا في الاعتبار هذه القيود التي تحد من موضوعية «خطاب الاتحاد»، ومن موضوعية أي خطاب سياسي يلقيه مسؤول في أي مكان، تصبح مهمة تحليل الخطاب مقصورة على الشكليات والاتجاهات العامة، وبعيدة قدر الإمكان عن تفاصيل الإنجازات والاخفاقات. بمعنى آخر، تبقى في إطار الانطباعات. خرجت فعلا بانطباع، أو قل بعدد من الانطباعات، منها أن الرئيس ربما تعمد أن يشيع بين الحضور، وخصوصاً بين المعارضين من الجمهوريين، ثقته الكبيرة في نفسه. وقد أفلح في ذلك، وهو ما عكسته أقلام صحافيين وباحثين كثيرين. تعمد أيضا أن يبدو منحازا للفقراء ولأولئك الأميركيين الكثيرين جدا الذين يتوقعون أن يكونوا بين الفقراء في أول أحصاء رسمي قادم. كان لافتا استعاراته لعبارات متعددة سبق أن استخدمها خلال العام الماضي، المشاركون في «انتفاضة وول ستريت». بدا أوباما حريصا على توريط الكونغرس للتعامل مع قضية اللامساواة في الدخول والاستعداد لمواجهة حاسمة معها في السنوات القليلة المقبلة. أفلح في هذا أيضا، وبخاصة حين ردد وراءه صانعو الرأي مفاهيم بدت كما لو كانت من صنعه أو من اختياره، مثل مفهوم «اقتصاد الطبقة الوسطى»، كبادرة جريئة لوقف الانهيارات الناتجة من الأخذ طويلا بسياسات نيوليبرالية، والقبول بهيمنة تيار متطرف في النظام الرأسمالي.
كذلك خرجت من جلسة استماعي للخطاب بانطباع أن في أميركا من يريد أن ينبه إلى أن الولايات المتحدة لن تكون في الأجل المنظور «رجل العالم المريض»، وهي الخشية التي تنتاب عددا متزايدا من القوى المحافظة في أوروبا وآسيا. ليس قدرا أو نتيجة حتمية أن يكون مصير «الإمبراطورية» الأميركية كمصير الإمبراطورية العثمانية أو السوفياتية في أواخر عقودهما. الإمبراطورية البريطانية، على العكس، وجدت بين قادتها السياسيين من يعيد توجيه مسيرتها في الوقت المناسب لتفادي هذا المصير. إلى جانب هذا، ما زالت الولايات المتحدة، برغم تقهقرها النسبي، تحتفظ بأرصدة هائلة وقوى بشرية مجددة ومبدعة ومرونة في الممارسة السياسية تسمح بتغيير المسار، أو إبطاء التقهقر، بل واستعادة المكانة والقوة.
انتظرت بشغف ما ينوي الرئيس أوباما قوله في معرض الحديث عن السياسة الخارجية. فكرت طويلا في أن الرئيس الذي أصابته سهام كثيرة حملته مسؤولية الانسحاب من مواقع نفوذ عديدة في الخارج. تصورت أنه لن يدع الفرصة تمر من دون أن يتوجه للأميركيين خاصة ولقادة العالم، بشرح مستفيض وتبريرات معقولة للتغيرات التي طرأت على السياسة الخارجية الأميركية، وفي موقع أميركا في العالم ومن العالم. هناك بالفعل على أرض الواقع ما يستحق الشرح والتبرير، فقد بدت المشكلات في الآونة الأخيرة أكبر كثيرا من حجمها، أو لعلها هي بالفعل كبيرة. كوريا الشمالية مثلا لا تزال تشكل تهديدا مباشرا لمصالح أميركا في شرق آسيا، وربما في العالم بأسره، إذا افلحت في نشر خبرتها في صناعة الطاقة الذرية لأغراض الحرب. أفريقيا تدخل أحد أسوأ مراحل تطورها السياسي والتنموي تحت ضغط الإرهاب، ومعه وباء الايبولا وعودة ظاهرة الانقلابات العسكرية. وفى الشرق الأوسط، تكالبت على الاستقرار السياسي ومصالح الدول العظمى جملة من المشكلات، في صدارتها مشكلة «الدولة الإسلامية» المتوسعة والمتفاقمة، وأزمة اليمن بكل ما تعنيه لمنطقة الخليج ومصير طرق الحرير التي تمهد لها الاستراتيجية الصينية، والصراع المتصاعد النبرات والأفعال بين إيران والسعودية.
من ناحية أخرى، يتواصل العناد المتبادل بين الرئيسين بوتين وأوباما. أوباما يصر على زيادة الضغط على بوتين بسلاح العقوبات الاقتصادية، وبوتين يصر على زيادة الضغط على أوباما وقادة أوروبا بسلاح «انبعاث القومية السلافية»، والتهديد بإعادة أوروبا إلى عصر كان الظن أنه انتهى إلى غير رجعة. هنا، وأمام هذه المشكلة، لا يبدو الرئيس أوباما في خطابه قلقا أو منزعجا، بل على العكس، يعتبر الحرب الاقتصادية ضد روسيا انجازا تطلع إلى تحقيقه كثيرون من صناع الرأي ومن أعضاء النخبة السياسية الأميركية، خصوصاً بعدما تأكد أن الكره لروسيا، شيوعية كانت أم رأسمالية، تجذر في العقل السياسي، وربما الشعبي، الأميركي.
استمرار هذه المشكلات والأزمات، لم يمنع الرئيس أوباما من التباهي بأنه حقق إنجازات مهمة في حقل السياسة الخارجية. جميعها، برغم أهميتها، ما زالت محل جدل. يأتي، في مقدمة هذه الإنجازات، تحسين العلاقات مع كوبا، وإقامة مناطق تجارية حرة وسحب أعداد كبيرة من جنود أميركا من أفغانستان والعراق، والسعي الناجح نسبيا، للوصول إلى علاقة استراتيجية مع الهند. إلا أنه مع ذلك تبقى الصين، الإنجاز الأعظم لإدارة أوباما، ومن حقه أن يتباهى به أمام العالم، حتى وإن كان أميركيون كثيرون يعتقدون أن أوباما فشل في كبح سرعة الانطلاق الصيني، أو فشل في تضييق فجوة السرعة بين الصعود الصيني والانحدار الأميركي.
اعترف بأن اهتمامي بما ورد عن السياسة الخارجية في خطاب الرئيس أوباما، لا يعكس بالأمانة أو الدقة، اهتمام الرئيس نفسه الذي ألقى هذا الخطاب. إذ لم تحظ السياسة الخارجية الأميركية سوى بعشر دقائق من خطاب استمر إلقاؤه حوالي الساعة. ولهذا الأمر دلالات كثيرة أتوقف عندها، لأن بعضها ينبئ بتطورات غير مستبعدة. أولى الدلالات، أن المرشحين لمنصب الرئاسة في الانتخابات بدأوا يستعدون لها بالتركيز على انتقاد السياسات الخارجية لإدارة أوباما. وبالفعل وقع اختيار المرشح ميت رومني مثلا على مشكلة «داعش» والإرهاب المتجدد والمتصاعد في المنطقة، مذكرا أوباما باختلافه معه حين زعم الرئيس أنه بقتله بن لادن قضى على الإرهاب، بينما توقع رومني وقتها صحوة «رهيبة» للإرهاب في مدة قصيرة. وهو ما حدث. وبالفعل، أيضا، وقع اختيار هيلاري كلينتون على عدد من النقاط في السياسة الخارجية اختلفت حولها مع الرئيس أوباما عندما كانت وزيرته للشؤون الخارجية. ومنها موقفه من الثورة المصرية وإطاحة مبارك، وكذلك رفضه تسليح المعارضة السورية. قد يكون قد دار في ذهن أوباما أن التركيز على السياسة الخارجية قد يثير شهوة المرشحين لتصعيد مواقفهم خلال الأسابيع القادمة، إلى حد يعرقل تنفيذ أوباما لخطوات معينة في سياسته. يخشى مثلا أن يشمل هذا التصعيد المبكر دعم رومني لنتنياهو في موقفه الداعي إلى العودة إلى تصعيد النزاع مع إيران والتوقف عن المفاوضات، وهو الأمر الذي يمكن أن يحبط أحد أهم إنجازات أوباما.
من الدلالات أيضا، انصراف الرأي العام عن الاهتمام بالمسائل والشؤون الدولية. تؤكد هذه الدلالة أن الخطاب الأخير تحديدا حقق أقل نسبة مشاهدة جماهيرية بين الخطب المماثلة في السنوات الماضية. من ناحية أخرى، يبدو معقولا من وجهة نظري الرأي القائل بأن الأميركيين وقد انصرفوا عن تمجيد «استثنائية «أميركا ورسالتها المقدسة إلى العالم وموقعها في مكان ما» فوق الأمم»، انصرفوا في الوقت نفسه، عن الاهتمام بأحوال الخارج وقضايا الشعوب وصراعات الدول.
دلالة أخرى محتملة، هي أن الرئيس وإدارته عندما انشغلا بكتابة خطاب الاتحاد لم يكونا قد انتهيا بعد من قراءة الطبعة الأحدث من تقرير «استراتيجية الأمن القومي»، الذي سوف يفصح عن رؤية مختلفة لدور أميركي في العالم خلال العقود القادمة. ربما خطر على ذهن مستشاري الرئيس أنه لن يكون من الحكمة أن يناقش خطاب الاتحاد مسائل سوف تتعرض لها استراتيجية الأمن القومي، عند نشرها بعد أيام قليلة من إلقاء الخطاب.
أيا كانت الدلالات، يبدو واضحا أن التحدي الذي لم يحاول أوباما في الخطاب إنكاره، هو المشكلة الاجتماعية، خصوصاً أن احتمالات تدهورها ازدادت ومظاهر بوادرها تعددت.
جميل مطر – السفير
mtar

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة