رائحة أمه

تاريخ النشر: 23/12/14 | 14:28

يحمل دفاتره وأقلامه الرصاص، ويجري بين جمع من الاطفال المسرعين للعودة للمنزل، خوفا من ان يكون الموت قد سرق أحد الأحبة في غيابهم. يذهب ليجلس على قبر أمه، ويحدثها طويلا عن المدرسة ورفاقه الذين رحلوا معها.. قبلها أو بعدها بيوم أو بيومين. ينتهي من كل ذلك ليسترسل معها في حديث خاص جدا عن كيفية استيقاظه في الصباح، واخوته ووالده لا يزالون مكومين في تلك البقعة المتبقية لهم من بيت كان، وكيف رآها تسرح شعرها الاسود الزاهي كليل فلسطين. وقبل ان يكمل، يردد عليها وانكسارة شديدة في عينيه، أن رائحتها لم تفارقه وانها بقيت معه حتى بعدما غطوا وجهها بالتراب في تلك الحفرة الصغيرة.
يرحل كل يوم منذ ان توقف دوي القذائف، ووقف هو ووالده واخوته على بقايا بيتهم، ذاك الذي استهدفته غارة إثر أخرى. في المرة الأولى، سمع والده يردد، «استرها يا رب». لم يكن لهم أحد إلا الرب لينادوه. في الطلعات التي تلت الضربة الثانية، لم يعد يعرف كيف يعد، ولا يدرك ما الذي حدث. فجأة، سكن الكون، فراحوا كعادتهم يتحسسون أطرافهم، وبعدها بيوتهم. وقبل أن يدرك ما حدث، سمع صراخاً ونواحاً، ورأى أمه بين الركام. في أقل من ساعة، كان قد خسر أمه ودفء بيته. توالت الأحداث سريعاً ليجد نفسه يقف على قبر أمه وحوله ما تبقى من أهله وجيرانه وأحبته. ستمر بضعة أيام وآلة حربهم لا تتوقف، ولا وقت للحزن. ثم تصبح زياراته للمقبرة أكثر من كل ما قام به وشاهده في سنوات عمره الست. هو ابن الحروب المتكررة. قالوا اعتاد الموت القادم مع كل وجبة صباح. وراح مدرّسه يشرح له معنى الوطن الذي أرضعته له أمه في حليبها.
في أيام المدرسة الأولى، عرف أن آلة موتهم لم تأخذ أمه وحدها، بل رفاقه في الفصل الذين بقيت مقاعدهم شاغره إلا من ملائكتهم. تلك أريكة أبي المفضلة، وهناك دفتر الرسم الخاص بأختي سماح، التي قالت لها مدرّسة الرسم يوماً «يا سماح لك مستقبل»، وضحكت لتكمل «قد تكونين بيكاسو العرب»، ابتسمت سماح، ولم تنس في مساء ذاك اليوم وهم جميعا محلِّقون حول سفرة عشائهم المتواضعة، وأكواب الشاي بالمرمرية التي تعشق مذاقها، لم تنس أن تسأل أباها «هو مين بيكاسو يا ابا؟».
يتذكر كيف أنه ورفقته في الأيام الأولى، كانوا قد سمعوا عن الشهادة والاستشهاد من بعض الشباب والصبية. أولئك الذين أدخلوا مفردات جديدة لقاموس النضال السلمي، الذي قام به غاندي وآخرون. هم فقط حملوا الحجارة عندما عبثت آلة الحرب فلامست أقدس المقدسات، ولم تُبق لا على بشر ولا على زرع، وسدت المنافذ كلها، حتى أوشكت ان تمنع الشمس من الاستحمام في بحرهم كل صباح. لم يبق سوى بعض من الشاطئ، يرحل إليه ليلعب كرة القدم أو يطارد طائرته الورقية التي رسمت عليها سماح بعضاً مما يسميه «شخبطاتها»، وعلم بلاده بتلاوينه الأجمل.
عندما توقف الدويّ القاتل وعاد بعض الحياة إلى الحياة وحياتهم، تصور أن كل العالم سيحزن معه على أمه. فقد توقفت الحرب وبانت مساحة للحزن. وفيما هو يرحل في خيال طفولي شديد البراءة، كان العالم، كل العالم، قد نسي حربهم وموتهم وجراحهم وجوعهم وصبرهم، وقبر أمه الذي يجلس عليه كل يوم حتى الآن يؤدي واجباته المدرسية حتى الحساب الذي يكرهه.. ثم يخبر أمه بأنه لو نسيها العالم كله، فستبقى هي ورائحتها الخاصة ملء وجدانه. هل نسيتم غزة؟ لا تزال المنازل مهدمة وصور الأفراح واللحظات الحميمة ممزقة ومبعثرة بين الأنقاض، وكثير من الدم والدمع والجرحى، جسدياً ونفسياً.. هل نسيتم غزة؟
خولة مطر
mat

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة