مفلح طبعوني، من نزيف الفروع الأصيلة إلى نزيف الظلال الهزيلة!

تاريخ النشر: 27/10/14 | 15:17

الشاعر مفلح طبعوني، أصدر مؤخرا ديوانه الثالث، “نزيف الظلال”، الذي تُؤكّد قصائده انتماءه الوطني والإنساني، وتعكس قلقه من استمرار المعاناة الإنسانية ونزيف شعبه. وحسنا فعل أنّه لم يختر للديوان عنوانا من عناوين القصائد، وإنّما من الجوّ العام المهيمن عليها، من الواقع المشوّه ومن الحلم الجميل الذي تُجسّده، فالعنوان يعكس الواقع والحلم. الواقع، هو نزيف الفروع الأصيلة. والحلم، تجسّده القصائد، باستمرار انتصاب تلك الفروع على الجذوع الأصيلة، لتبني عالمها الجميل، الذي لا تخرج فيه الظلال عن كونها ظلالا، حيث سيكون نزيف الظلال هو النزيف الأخير، لأنّ الطبعوني يقوّض الواقع الذي تتحكّم فيه الظلال الهزيلة وتطغى. الفروع الأصيلة هي الشعب الأصيل بثورته وتضحياته ونزيفه، والظلال هم أعداؤه، الطغاة الذين يُسببون له النزيف الذي سيرتدّ عليهم حتما. في كل قصائد الديوان لا يكفّ الشاعر عن التأكيد على حتمية البعث والتغيير. وليس عبثا اختار لغلافه الأخير بعضا من مقاطع القصيدة الأولى، “بعث أبيد”، التي تُجسّد الحلم.
تتميّز قصائد الديوان بإيقاعها وانسيابها الموسيقي، ترفدهما قافية متنوّعة، تنطلق غالبا وتسكن عند الحاجة للسكون. في الديوان فيض من المشاعر الإنسانية والصور الشعرية الجميلة التي تعطي القارئ، إلى جانب بُعدها الجمالي، بُعدا فكريا يُثري جمالية القصائد ومضامينها. البعد الفكري متملّصٌ أحيانا، يحتاج فيه القارئ إلى أن يُعمِل فكره وذوقه وثقافته، فالقصيدة الحديثة بعناصرها المختلفة وكثافة لغتها، لا تدغدغ مشاعرنا بموسيقاها وإيقاعاتها فقط وإنّما تستفزّ فكرنا وذاكرتنا وثقافتنا وقدراتنا على فهم الكامن بين السطور.
يحوي الديوان مجموعة من القصائد، كتبها الشاعر على فترات متباعدة، بعضها يرتبط بأحداث أو بأماكن وشخصيات مختلفة، هي غالبا جزء من الهمّ الفلسطيني أو العربي. يجمع بينها كونها عصارة تجاربَ عاطفيةٍ، إنسانيةٍ، وطنيةٍ، وفكريةٍ ثورية، عاشها أو عايشها الطبعوني وتأثّر بها. في هذه القصائد لامس الطبعوني الهمّ الفلسطيني والهمّ العربي، وكذلك الهمّ العالمي أو الإنساني. رسم في ديوانه خارطة للحزن الفلسطيني، ورسم أخرى للتشوّه الاجتماعي والسياسي، الفلسطيني والعربي، ورسم ثالثة لوجه الإنسانية التقدّمي النيّر في مواجهة الفكر الرجعي المظلم. هذه الروافد الثلاثة لشعر الطبعوني تجتمع في قصيدة “تكامل الفوضى” (ص 37) التي سأتحدّث عنها، إذ لا أستطيع في هذه العجالة التوقّف عند كل جوانب شعر الطبعوني. الحديث عن القصيدة سيلامس بالضرورة بعض القصائد الأخرى.
“تكامل الفوضى” قصيدة مميّزة، تعطينا صورة واضحة عن الطبعوني ومعالم شعره، حيث يتجلّى فيها كإنسان يحمل همّ الإنسانية كلها، ووطنيّ يحمل همّ أمته وشعبه. وصاحب فكر تقدّمي ثوريّ يتعامل مع قضايا الذات والآخر، بمشاعر إنسانية صادقة، وبعقلانية وموضوعية واحترام، بعيدا عن التزمّت والعنصرية والاستعلاء. ويتجلّى فيها كصاحب رؤيةِ ورؤيا، حيث يُجسّد في شعره فكرا وحلما يبني عليهما مستقبل شعبه وأمته والإنسانية.
في هذه القصيدة، كما في غيرها، تفيض لغة الطبعوني شعورا وفكرا وصورا جميلة، فهي تنقاد له فيُشكّلها بشكل أحاسيسه وأفكاره. وفيها كما في غيرها، يُقوّض الشاعر عالما مشوّها ليبني مكانه عالمه الذي يحلم به ويضحّي من أجله. وهو عالم جميل، أصيل ونبيل، والأهمّ من ذلك، كونه عالما يتسع للجميع، يبنيه الشاعر على أعمدة قوية وراسخة، تقوم على النزعة الوطنية والإنسانية وعلى المعرفة، السياسية الثورية بشكل خاص، المستندة إلى فكر تقدّمي نيّر. يبني عالمه من اللغة التي تُشكّل الهوية والانتماء. فالشاعر يوظف لغته بكل إمكاناتها، يخلق لغة عالية الكثافة برموزها ودلالاتها العميقة تستدعي من المتلقي كل طاقاته وقدراته على الحفر في ذاته وثقافته لفهم انزياحات المعاني التي يرمي إليها.
كنموذج آخر، في بداية قصيدة “بعث أبيد” (ص 7)، تحديد للعالم الذي يتحدّاه الشاعر ويريد تقوّيضه. يقول: “عادت الأيام من عمق الزمان، تتحدّى” (ص 9). في هذه العبارة إشارة إلى تاريخية الظلم وحتمية التحدّي والثورة على “مصبّات الشحوب” (ص 9)، أي على مصادر الألم والظلم. هذا العالم يقوّضه الطبعوني ليبني مكانه عالما لا حواجز فيه ولا احتلال، يعود فيه إلى الوطن ليعيش حياة يغمرها الاستقرار والسكينة، إذ يقول:
“اَنْقِذيني / منْ عذاباتِ الحواجزْ / وخذيني للشُّموسِ الشامخاتِ / لأغني لعطايا الكبرياءِ / معْ جُموعِ الأوفياءِ / في بلادي / وخُذيني / نحو حيفا / كي أنامَ عندَ موجِ العائدينا” (ص 10).
هناك يبني عالما يتبدّد فيه الظلام ويُفيق الكون من سباته، ليلتهب فيه الحبّ، عالما فيه نهاية للتشرّد والمنفى والاغتراب، يتمتع فيه الفلسطيني بـ “أعناب الخليل وخمر قانا الجليل” (ص 22). ويقول في نهاية القصيدة: “اجبليني واجعليني طينة البعث الأبيد”. هذا البعث الذي يريد الشاعر أن يكون طينته، هو بعث سرمديّ لشعبه وللإنسانية التي ستهبّ ضد طوفان الظلم والقهر والفساد الذي أشار إليه في بداية القصيدة. وإذا كان البعث الإلهيّ يُفضي إلى جنة في السماء، فالبعث الأبيد لدى الطبعوني يُفضي إلى جنة الإنسان على الأرض.
وعودة إلى “تكامل الفوضى”. هل تتكامل الفوضى؟ سؤال يفرضه عنوان القصيدة. وهو دافع مشوّق يُلزم القارئ باستكمال القراءة والبحث عن الجواب. في لغة العنوان، أضاف الشاعر النقيضَ إلى النقيض، التكامل إلى الفوضى. الجمع بين النقيضين، إن لم يكن مستحيلا فهو مرهق ومربك حتما، مثل الجمع بين الموت والحياة أو الفرح والحزن. إنّها مغامرة لا نعرف كيف سيخرج الشاعر منها إلّا إذا قرأنا القصيدة وكشفنا أسرارها.
الجمع في العنوان بين التكامل والفوضى، يوحي بتعقيد وتناقض يُحيلان إلى تعقيد الواقع المعيش وتناقضاته. إلى واقع تنزع فيه الفوضى إلى التكامل. وهذا ما يدفع الطبعوني إلى رسم خارطة لفوضى الواقع: الفلسطيني والعربي والإنساني. أولا، ليقوّض هذا الواقع المشوّه والمزيّف، وثانيا، ليبيّن، رغم مسحة الحزن والتشاؤم أحيانا، أنّ الفوضى عاجزة عن التكامل، لأنّ الإنسان، الذي لا يفقد البوصلة والأمل، قادر على خنقها، وعلى أن يبني على أنقاضها عالمه الجميل المرتجى. سنجد في القصيدة تكاملا، ولكن ليس للفوضى، وإنّما في التحام إنسانية الطبعوني وثوريته وفكره التقدّمي بالعناصر الثورية الفلسطينية والعربية والإنسانية عامة.
مطلع القصيدة يرسم عالما مشوّها يُعاني من الارتباك، فقد مناعته وغمرته الكآبة وفقدت أشجارُه بهجة نَضارها وخضرتها. إنّه عالم “تتفكك فيه نوتة العشق” (ص 39)، وهي نوتة يجب أن تكون متلاحمة، منسابة ومتناغمة، فما الذي يُفكّكها؟ هنالك إنسان قلق لا ينام، هو الإنسان الفلسطيني، ما زالت وسادته، كما يقول: “تنتظر استراحة المرحلة” (ص 40). كيف يهدأ إنسان يعيش مرحلة ما زال فيها “يُسفَكُ زهر الرمان، فتتقشّف الحياة… مرارة ولوزا” (ص 40)؟ الرمان وزهره يرمزان إلى أشياء كثيرة وجميلة مثل الخصوبة والنسل الكثير والأماني، وأنوثة المرأة وجمال مفاتنها. ولكنّ زهر الرمان الذي يُسفك هنا هو دم الشعب الفلسطيني وأحلامه وأمانيه. وسفك الدماء يجعل الحياة تتقشّف، وتعمّها المرارة. في مثل هذه الحياة، تقترن حلاوة اللوز بالمرارة. فاللوز أيضا، رغم رموزه الكثيرة والجميلة، يفقد طعمه ورموزه الجميلة. مثلا، يعتقد المسيحيون، أنّ عصا يوسف النجار التي كانت من خشب اللوز، قد أزهرت كعلامة للرعاية الإلهية، فأصبح زهر اللوز رمزا لطهارة السيدة العذراء ونقائها. ولكن، أين طهارة الحياة في واقعنا الذي نعيش، وأين الرعاية الإلهية؟ تقشّفُ الحياة يعني أنّ الحياة فقدت طهارتها ولم تعد تستحقّ الرعاية الإلهية. والسبب هو سفك الدماء في زمن “العاهرات القديسات”، عاهري السياسة العربية الذين عهّروا الحياة ودنّسوها. فهم منذ النكبة وحتى اليوم يرقصون على الدم الفلسطيني مدّعين أنّهم يعملون لوقف نزيفه.
ولماذا الدم الفلسطيني وليس دما آخر؟ لأنّ في العبارات التالية، إنسان ما زال “يسأل القلق، عن ستائر غرف النوم المهجورة / وعن رفوف الكتب والألوان” (ص 40-41). إنّه الفلسطيني الذي هجر تلك المعالم قسرا، واغترب في وطنه أو تشرّد في المنافي. وهو نفسه الذي “يسأل البحر عن حيرته أمام العذارى” (ص 41). والفلسطينيون، أكثر من يعرف سبب حيرته؟ فالبحر الذي كان يضمّ العذارى ليسبحن في أحضانه كرمز للحبيب، لا يعود البحر ذاته عندما يقف في صفّ الأعداء وينتزع الناس ظلما ويحملهم قسرا إلى المنافي، فيصبح رمزا لتقشّف الحياة وتجهّم وجهها. لقد فقد طهارته فعجز عن أن يُعيد للحياة طهارتها. ولكنّ الإنسان الفلسطيني، رغم قلقه، لا يفقد الأمل ولا تخبو ثورته، فهي جزء من الثورة الإنسانية. لذلك، يسأل أيضا “عن ألحان أورفيوس” (ص 41) ويتماهى معها. فهي وقود للثورة، لأنّ أورفيوس، كما تقول أساطير اليونان، “هو موسيقيٌّ كانت موسيقى صوته وقيثارته من العذوبة بحيث كانت تتبعه الحيوانات والأشجار والأحجار، وتتوقف الأنهار عن الجريان كي تستمع إليه”. ماذا تحمل هذه الكلمات إن لم يكن تجسيدا للإنسان الثوري والقائد الثوري؟
ويسأل الطبعوني، عن “ماسورة سرحان” (ص 41)، يستحضر القائد الشيوعي والشاعر الثوري، توفيق زيّاد، ليرسّخ حضوره في أذهاننا، لأنه يرى أنّنا لا يمكن أن نتخيّل فلسطين والناصرة بدون توفيق زيّاد، وشجاعته وصدق قصائده الثورية، التي حمّلت سرحان “ماسورته” وأعباء قضيته الوطنية والعربية والإنسانية. ذلك الإنسان البسيط الذي زرعه الواقع في شعر زيّاد ليُعلّمنا أنّ الظلم والسجن وأعداء الإنسانية، لا يتركون فرصة للإنسان إلّا أن يكون ثوريّا، ليحافظ على حريته وكرامته الوطنية والإنسانيّة. ولذلك فقد أفرد الطبعوني في ديوانه قصيدة خاصة لتوفيق زياد بعنوان “الغائب الحاضر”، يتساءل فيها، للتأكيد وليس للشكّ:
“دم من هذا؟” ويُجيب: “دَمُها، دَمُنا، دَمُكَا / هذا النَّازِفُ مِنْ بَوَّاباتِ الْقُدْسِ / لِيَنابيعِ أَريحا / وَكَأَنَّكَ لَمْ تَغِب / وَكَأَنَّا لَمْ نَفْتَرِق / وَكَأَنَّكَ ما زِلْتَ عَلى الْـمنْبَرْ / في الأَوَّلِ مِنْ أَيَّارْ” (ص 55).
هذه القصيدة ليست للرثاء. “الغائب الحاضر” التي أهداها الطبعوني لتوفيق زيّاد، و”رفيقة درب” التي أهداها للرفيقة المناضلة “ميسَّر عاقلة طنوس”، و”صور من تلاوين القدر”، التي أهداها للكادح حسن عميري، هذه القصائد ليست للرثاء، إنّما هي استحضار لشخصيات مناضلة، عادية وغير عادية، ناضل كل منها بطريقته الخاصة، فاستحقّ أن يظلّ بيننا، فنحت له الطبعوني أيقونة تظلّ حاضرة تنفي غيابه.
ويسأل الطبعوني “عن الحكمة وناظمها”(ص 41)، في إشارة جميلة وذكية إلى الشاعر التركي “ناظم حكمت”، الذي أحبّ الفقراء والمهمّشين، وعرف طعم الظلم والسجن والمنفى فأحسّ بألم الإنسان وكآبته ومرارة عيشه، وآمن به. يقول ناظم حكمت في إحدى قصائده:
“ولتمنح ثقتك قبل الأشياء الأخرى للإنسان
ولتمنح حبك قبل الأشياء الأخرى للإنسان
ولتستشعر أولاً اكتئابة الإنسان”.
وهذا ما يُجسّده الطبعوني، الذي يمنح حبّه وثقته للإنسان الفلسطيني، وللإنسان عامة، يعيش حزنه ويحمل همّه ويُؤكّد حتمية نصره في كل قصيدة وقصيدة.
الجمع بين هؤلاء الشعراء الثوريين الثلاثة الكبار، يعني بوضوح أنّ الطبعوني متأثّر بشعرهم وثوريّتهم، فاختار أن يكون امتدادا لهم. وقد جمع بين ثلاثة شعراء ثوريين، أولهم عاش قبل الميلاد وخلّدته أساطير اليونان، والآخريْن اختارهما من عصرنا، أحدهما لحمه من لحمنا ودمه من دمنا، ليقول لنا أنّ الثورية الإنسانية كانت وما زالت مستمرة ونحن عصب من أعصابها. واختار شاعرا من العصور القديمة واثنين من عصرنا، لا ليُبيّن أنّ الثورية اليوم أكثر مما كانت عليه قديما، وإنما ليبيّن أنّ حاجتنا اليوم إلى المشاعر الإنسانية والممارسات الثورية تضاعفت أضعافا، لأنّ صُنّاع الظلم والخراب تضاعفوا بما لا يُحصى. وهذا ما ساق الطبعوني للتمرّد عليهم، والالتحاق بركب المناضلين: ثوريّي شعبه والإنسانية.
الثورة يولّدها القهر، ومنها يُولد الفكر الثوريّ وأدب المقاومة. والطبعوني كما نستشف من شعره، ثائر ضد الظلم، ويؤمن بالفكر الثوري، فقد علمته النكبة ودفعته ليتتلمذ أولا على البسطاء الذين شربوا علقمها، وثانيا على الثوريّين من الفلاسفة والمبدعين، ولذلك، فهو يسأل أيضا عن أرسطو، أسطورة المعرفة الذي وسعت معرفته وفلسفتُه الحياةَ وعلومها. ويسأل أيضا عن “ابن رشد والحريق”. ابن رشد هو عمود من أعمدة الفلسفة التنويرية، العربية والإسلامية، و”الحريق”، يمثّل شراسة الفكر الرجعي وعدائه للفكر التقدمي، وهو إشارة إلى حرق كتب ابن رشد التي تمثّل الفكر التقدمي النيّر. بهذا التساؤل، يحقد الشاعر على كل ما هو رجعيّ، ويفضحه.
ويتابع فيسأل عن نيرودا وأشعاره الثورية. يُخاطب نيرودا زوجته في السوناتا الأولى بعبارات تفوح منها رائحة الغزل والجنس، مثل: “اجتاحيني بفمك الحار / استنطقيني بعينيك الليليتين”. وكذلك يفعل الطبعوني في قصيدة “بعث أبيد”، حيث يُخاطب حبيبته، أو زوجته، فيقول: ألهبيني / ظلّليني / جدّليني / عانقيني / أسكريني…، ولكنّ الدلالة الحقيقية لهذه العبارات تتعدّى الغزل والجنس إلى ما هو أبعد وأعمق. نيرودا يفضح أعداء تشيلي والطبعوني يفضح من خانوا قضية شعبه، ويقف إلى جانب من يُضحّون من أجلها. ولهذا فهو يسأل أيضا عن “حنظلة”، تلك الشخصية الكاريكاتيرية التي خلّدها ناجي العلي فخلّدته، “حنظلة” الذي يُدير ظهره للرجعية العربية ويقف شاهدا على مرارة الحزن الفلسطيني، ووجع الوطن العربي وموبقات زعمائه.
الطبعوني بفكره الثوري، يُدرك أنّ أعداء الإنسانية لا ينقصهم البصر والسمع ولكن تنقصهم البصيرة والحسّ المرهف، ولهذا جمع بين مبدعيْن أحدهما فقد نعمة السمع والآخر نعمة البصر، ولكنّهما لم يفقدا نعمة البصيرة والحسّ المرهف. جمع الطبعوني بين “سيمفونيات بتهوفن” و”غنائيات الشيخ إمام”، اللذيْن، ببصيرتهما وحسّهما المرهف، سلكا طريق الثورة إلى الإبداع والخلود. والثورة كذلك هي ما جعله يجمع بين مايكوفسكي، شاعر ثورة أكتوبر الروسية وبين محمود درويش شاعر الثورة الفلسطينية مشيرا إليه بقصيدتيه “لاعب النرد” و”الجدارية”. كل من يقرأ شعر الطبعوني يُدرك أنّ لمحمود درويش مكانة خاصة فيه.
بعد هذا الزحام الإنساني الثوري، يؤكّد الطبعوني أنّه يُدرك أنّ مجموعة من “العاهرات بثياب القديسات”، تراوغ هذا الزحام وتسبب له الفوضى والارتباك، يقول:
“لم تكن البراعة / إلا المراوغة / لذاك الزَّحام، / فالممرّ إلى المتاهات / سهيْل ومريح،
إلا قليلا من العاهرات والقديسات، / قليلا من يانصيب الارتباك” (ص 43).
هنا يظهر الشاعر العارف بخبايا السياسة، يُدرك ألاعيبها ولا ينخدع بعهر أهلها. “المراوغة” تُحيل إلى السياسة، و”العاهرات القديسات” تحيل إلى الزعماء العرب الذين يتظاهرون بدعم القضية، بينما يقفون عائقا في طريقها. المعاني هنا مقلوبة. كيف يكون “الممر إلى المتاهات سُهيْل ومريح” (ص 43)؟ ونجم سهيْل من أشدّ النجوم سطوعا. هل الطريق إلى المتاهات سهل وواضح فعلا؟ ولفظة “مريح” لغة، قريبة من “المريخ”، والمريخ في تراثنا يُضرب به المثل بالبعد. نقول أحيانا “كذا أبعد من المريخ” لبيان صعوبة الوصول إليه. كذلك “عاهرات” السياسة العربية ليسوا قلّة. الحقيقة أنّ قلّة قليلة جدا من الزعماء العرب لا ينطبق عليهم هذا الوصف. والباقون هم صانعو الفوضى والارتباك. هدف قلب المعاني هو السخرية وفضح الواقع الذي تتحكّم به الظلال العربية ويدنّسه عهرها السياسي.
يؤكّد الشاعر ثانية أنّ الإنسان الذي يخاطبه هو الإنسان الفلسطيني، يقول: “أعرف أنّك تنتظر العاصفة… أعرف بأنّك تعرف أنّ فلسطين طيبة القلب” (ص 44). العاصفة تحيل على السياسي، و”طيبة القلب” تحيل على الاجتماعي. يتداخل الاجتماعي بالسياسي فيما نعيشه وتعيشه فلسطين، لتتكامل الفوضى، فتأتي السخرية لفضحها ومنع تكاملها، السخرية من الواقع السياسي والاجتماعي، الذي يُهمّش القضية الأساس، قضية الوجود والمصير، ويتماهى مع توافه العصر، يقول:
“تتماهى (فلسطين) مع إطلاق الرصاص والمفرقعات
في الأعياد والأعراس وأيّام الميلاد” (ص 45).
هذه صورة للواقع المزيّف الذي نعيشه، نمارسه ونسخر من أنفسنا لأنّنا نمارسه. لذلك تأتي بعد هاتين العبارتين، عبارة “في الجنازات” تنضح سخرية من هذا الواقع. وهي سخرية تفيض ألما واحتجاجا على واقع تعمّه فوضى الفرح والحزن حيث لا نُميّز فيه بين الأعراس والجنازات.
والمقاطع التالية أيضا، تُؤكّد فوضى التماهي مع التفاهات، حيث فلسطين:
“تتابع المسلسلاتِ / من أبواب الشام / حتى طاقات الأهرامات /
ومن شبابيك الإمارات / حتى خلفيّات التركيات / ومهند حارق الألباب” (ص 45).
رغم ما نحن فيه من متاهات فنحن نلهث وراء شكليات تنسينا القضية الأساس التي لا ينساها الشاعر. وهو يُمهّد في المقاطع السابقة لتداخل السياسي العربي بالفلسطيني، وجناية السياسية العربية والحركات الدينية على فلسطين وشعبها. يقول ساخرا من هذه الفوضى العارمة:
“وأنأ أعرف مثلك بأننا لسنا كباقي الشعوب / نملك وطنًا واحدا، بل أوطان / كوطن المليون شهيد، واليمن السعيد /… / عندنا أقواس نشاب نقاتل بها الأعداء / فمنّا “معمّر” الأوطان!! / وذاك الذي في السودان!! / والراقصات على النيل / وعارضات المواقفِ / ضد الإرهاب في لبنان” (ص 46-47).
الطبعوني متأثّر بالشاعر العراقي “مظفّر النواب” وبعباراته الساخرة. عبارة “عندنا أقواس نشاب نقاتل بها الأعداء”، هذا السلاح الذي لا يليق بالعصر، رغم البعد اللغوي، تُذكّر بعبارة النواب “حملتم أسلحة تطلق للخلف”. وعبارة “ذاك الذي في السودان!!” تُذكّر بـ “جرذ الأوساخ المتكرّش في السودان”. والسخرية في تعابير الطبعوني والنواب مكشوفة رغم محاولة تبطينها. هذه العبارات الساخرة جاء منها الكثير في شعر النواب الذي فضح الزعماء العرب ونسي “معمّر القذافي” أو تناساه، لأنّه كان آنذاك مختبئا خلف قناع الوطنية، احتضن النواب حين توعّده الآخرون. ولكنّ الطبعوني لم ينسَ، فعندما يقول “فمنّا “معمّر” الأوطان!!” (بكسر الميم) مع وضع لفظة “معمّر” بين مزدوجين، وينهي العبارة بعلامتي تعجّب، ذلك يعني أنّ المعنى مقلوب، وأنّ هذا “المعمّر” هو القذافي الذي سقط عن وجهه القناع، وانضمّ إلى قافلة هادمي الوطن وبائعي قضيته. يسخر الشاعر من مواقفهم المخجلة. وقوله “عارضات المواقفِ ضد الإرهاب في لبنان” هو نموذج فقط، لسلسلة طويلة من المواقف المخجلة التي تُشكّل حطب الفوضى ووقودها.
ثم يتداخل الديني بالسياسي، وكل ذلك من ملامح الفوضى، حيث يقول:
“وأعرف بأنك تعرف / بأنّ الحولقة كالحوقلة / وتعرف الآب والابن والروح القدس
وتعرف بأنّ الطريق إلى المهد / مزروعةٌ بالألغام / وما تيسّر من ظلام الخلافات” (ص 48).
ينتقد الطبعوني الخطاب الديني الذي يحرف الفلسطيني عن قضيته إلى نقاشات دينية لا طائل منها، كالجدل حول “الحولقة والحوقلة”، وهما شيء واحد، في حين أنّ القضية الأساس هي الألغام المزروعة في الطريق إلى المهد. “كنيسة المهد” رمز لفلسطين المحتلة، ونزع الألغام من طريقها يعني التحرير. ويطوّع الطبعوني اللغة في اختياره للفظة “خلافات”، فهي جمع لخلاف ولخلافة، وإشارة إلى الخلاف حول الخلافة. وهو خلاف سياسي ينشر فكرا ظلاميّا يسعى إلى “تكامل الفوضى” ووأد القضايا الأساسية، وعلى رأسها قضية فلسطين، وأصحابه يتحمّلون مسؤولية مباشرة عن تحوّلاتنا السياسية والأخلاقية.
بعد أن وضع الطبعوني في أذهاننا منذ العنوان أنّ الفوضى يمكن أن تتكامل، أصرّ خلال هذا الزحام أن ينتهي بنا إلى ما هو عكس ذلك تماما، لأنّه يعرف أنّ تكامل الفوضى يعني أن “يُصلب الفلسطيني على الحائط” – بدون تشبيه” (ص 48)، أي بدون تشبيه بصلب السيد المسيح، الذي يعني خلاص البشرية، بينما صلب الفلسطيني، “أو تُذبح على العتبة – مع تشبيه” (ص 48)، يُشبه أيّة عملية ذبح عادية، حتى وإن كان يُراد منها الإبادة الجماعية لشعب لا يجد له مخلصا إلّا نفسه. “تكامل الفوضى” يعني فناء الفلسطيني الذي “لن يتدخّل أحد لإنقاذه” (ص 48). يُسفك دمه ولا أحد من “عاهرات” السياسة العربية يُحرّك ساكنا لإنقاذه، بل “ينام الجميع ليلة هادئة الرياح” (ص 48-49)، فيما تظلّ أبواق سياستهم ترعى النزيف وتتغنّى عهرا بتضحيات الفلسطيني وبطولاته. يرى الطبعوني، أنّ هذا النزيف يجب أن يتحوّل إلى الظلال، أن يتوقّف نزيف الفروع الأصيلة ويبدأ “نزيف الظلال”. والفلسطيني وحده هو القادر على طرح السؤال وتقديم الجواب. تقول نهاية القصيدة:
“لماذا لم تتكامل الفوضى؟!!
“لنبدأ من جديدٍ / بزرع هذه العتمةِ
بالنعمةِ والنغمةِ / من قاع الأرضِ / إلى القمة ْ” (ص 49).
هذه النهاية المفعمة بالأمل، تبيّن بوضوح الحتمية التي يٌؤمن بها الشاعر، أنّ الإنسانية ستنتصر على مصّاصي دمائها، والشعب الفلسطيني سينتصر على جلّاديه، لأنّه، كما يراه الطبعوني، هو “جمل المحامل” العربي الذي سيواصل حمل قضيته، وهو سيزيف العربي الذي لن يفقد الأمل، وهو بلا شكّ، العنقاء التي ستنهض حتما من بين الرماد، سيوقف نزيف الفروع الأصيلة وينقله إلى الظلال الهزيلة.

بقلم: محمد هيبي
351

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة