رؤية نقدية حول قصيدة لو تعلمين للشاعرة مقبولة عبد الحليم

تاريخ النشر: 18/09/14 | 15:30

مَنْ يقرأ شعر شاعرة الكون الرحيب ” مقبولة عبد الحليم ” يجد فيه: (جزالةَ اللفظ وسمو البيان، سحر الصور وعذوبة الألحان، سَعَةَ الخيال واشتعال الوجدان).
أمامي معلقة تزاحم العشر الحِسان، تزين جيدَ كل معلقة بعقد من الجمان، ولا أبالغ إن قلت: إن شعرها يفوقهن جودة في الشكل الفني الغني بجمالياته وإبداعاته.
العنوان: ” لو تعلمين ” الذي نطل من خلاله على عالم النص يضعنا منذ البداية أمام تساؤل: مَنْ المخاطب؟
الأمر هنا لا يستدعي تردداً في الإجابة فالشاعرة تخاطب درة الكون ومركز رحاه وعنوان طهارته ” أمها فلسطين ”
تبث الشاعرة لفلسطين حبّها وتباريح وجدها في نصها عبر ثمانية مقاطع سبعة منها كان الاستهلال فيها بقولها: ” لو تعلمين ”
أما المقطع الثامن فقد كان مفتتحه قولها ” وستعلمين ”
اللافت هنا أن الشاعرة تدرك يقيناً أن فلسطين تعلم ما حلّ بها وبأبنائها على أيدي الطغمة المارقة المضبوعة من العرب التي خذلتها وأدارت ظهرها لها فعلامَ كررت قولها في نصها ” لو تعلمين “؟

إنّ ثقافة شاعرتنا الإسلامية جعلتها تقتفي أثر الأسلوب القرآني التعبيري المميز الأخاذ، فقد ورد في سورة الأنفال قول الحق سبحانه عن شر الدواب الصم البكم الذين لا يعقلون.
لم تقف بلاغة القرآن حائرة أمام البيان ففي قول الحق (ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم)
وهنا قد يتوقف القاريء متسائلاً: لماذا قيل ولو علم الله)؟ أليس الله يعلم ما فيهم؟
بلى.
فالحق سبحانه يعلم.
ويأتي التأويل المفحم ليقول: ولكن الله يعلم ولا يريد أن يسمعهم لأنه كما بيّن مردفاً بقوله يفسر منعه (ولو أسمعهم لتولّوا وهم معرضون)، هذا الأسلوب القرآني الفريد وظفته الشاعرة في مخاطبتها لأمها فلسطين فهي تعي أن فلسطين تعلم.
وكأنها تقول لها: ولكنك تعلمين بما انغرس في قلوبنا من حب لك وبما عاناه أبناؤك من أجلك وما فعلتْهُ الطُغمة الخائنة معك حين خذلتكْ.
فلسطين تعلم ولكنها كديدنها برحابة صدرها ورجاحة عقلها ونبض قلبها وفيض حنانها تصغي لابنتها وإن أجابت فهي لا تخرج عن هدوئها ووداعتها ورقتها، حيث تجعل الأمل مشرقاً في قلوب أبنائها رغم ما يعتصر فؤادها من جراحات وآلام.
فلسطين تعرف أنها جنة الدنيا: بطهرها وقداستها وعبق ورودها وينع ثمارها وخصوبة أنوثتها وذكورية أمطارها.
فلسطين تعلم أن أواصر العشق بينها وبين أبنائها مازالت متينة.
كلٌ يفني عمره في حبورٍ لتبقى.
فمن حاملٍ لفأسه ومنجله إلى مقاوم بيراعه وكلمته ومشاعره إلى مجاهد يفتديها بماله ودمه في غير انتظار لمغانمه.
رغم هذا العلم كله فهو لا يمنع ابنتها البارة البوح لها بشوقها ووجدها.. بهمِّها ولوعتها عبر صيغة (لو تعلمين).
استخدمت الشاعرة حرفَ التوكيد في كل المقاطع ثماني مرات ولهذا دلالته على رسوخ الحقائق وعمق الحب وقوة اليقين.
– لو تعلمين بأن روح الورد
ما كانت هنا إلا لنا
– وبأن أزهار البنفسج أينعت
ممّا روتهُ بوفرة أمطارنا
– بأن جدي ما استراح بليلة
– بأن خيل النار لو صهلت
– بأن أشجاراً لنا نبتت هنا
– بأنني سأصادق اللحظات كي أفضي
– بأن روح الفجر ما تعبت
– بأن الروح ما فتئت تناديني
وفي صورة آسرة موحية (لجدها) الذي عشق أرضَ الوطن فقضى سني عمره فرحاً وهو يتجشم المتاعب ويكابد الصعاب من أجل جلب الخير لأبنائه ليعانق أحلامهم كما الأغصان والورود تحتضن قطرات الندى.
إن الشاعرة وهي تبوح بهذه العلاقة بين جدها والأرض تؤكد على مدى ارتباطه بها.
لو تعلمين بقلبه وبما هوى
وبما تكبد من عذابات الجوى
لكننا سرعان ما تستولي علينا الدهشة عندما تنحاز لعنصر الدم معاتبة أمها قائلة:(ما كنتِ أسبلتِ العيون وقلتِ: لا
ما عدتُ أنفع فابحثوا
عن موطن يأوي العظام
وإنني سأصادر الأحلام من ليلي أنا).
تُرى ما الذي دفع الأم لهذا القول المُوجع ومن المقصود به؟
هل هو جدها (رمز التضحية والجهاد والبذل والعطاء) الذي ما استراح بليلة كي يعود بالخير لأبنائه؟
تعود شاعرتنا مقبولة عبد الحليم لتكشف لنا دواعي هذا الوجع فتقول:(لو تعلمين وكم من الأحلام قد غدرت بنا؟
وتزينت منذ البداية حينما سرقوا المدى
من نور عين الحق واحترفوا الحكاية
وتقمصوا ثوبَ التقى والوعد وعد الحق
قالوا واستقالوا من مواعيد البداية).
إنه غدر الطغمة الفاسدة من العرب التي خدرتنا بالأماني الزائفة يوم احترفوا فن الحكاية وتنكروا بثوب التقى وترجلوا عن صهوة الواجب منذ البداية.
إنهم يعلمون أن وعد الحق لن يتخلّف لكن الوهن سكن قلوبهم وما عاد لخيولهم صهيل في ساح الجهاد ممّا أغرى الغراب (رمز البشاعة والتخاذل) بالهيمنة على تلالنا الخضراء وقد جمّلوه بريشات اقتُطِفَت له من عذرية النسمات.
آهٍ يا أماه… إنك تعلمين أن الأشجار (رمز الصمود والأمل) التي احتضنتها أرضُك كانت قبلة العابرين من الأحبة تهفو لهم وتحن لمقدمهم
آهٍ يا أماه… كيف ضاعت ملامحها فلم تعد هي بوصلتنا التي ترد تيه الصحارى المجهدة
إنك تعلمين ما اختزنته من جراحاتٍ لا تزول وإنني أغتنم فرصه مصادقة اللحظات للإفضاء والبوح.
هاهي أمانيّ العِذاب تطوف محلقة كي تلقى مكاناً يحتويها لتغرد منتشية بأجمل الغناء وأن فجري الساطع رغم آلامه ما زال أغنية عذبة يسكب فيها ألحانه لتسعد الدُنا بعبقها وخفقاتها.
إنني سأجعلها تهطل ودقاً من الفرح في عيون الشمس لتحيا ابتسامتي التي كادت تموت.
إن ما أريد إخبارك به وإعلام من في الأرض جميعاً بأن روحي المتدفقة حبّاً سترسل حروفي المشتاقة الهامسة لتحولها إعصاراً بل قرباناً فدية لك؛ لتذوبي وتتماهي في تلاحيني ومناجاتي وإن متُ فاصبغيني تحت أرضك… واحفظيني عزفاً على وتر الذكرى وإن بُعِثتُ فأعيديني هنا لحناً.. أعيديني
نجحت الشاعرة في توظيف الرمز في قصيدتها:(خيل النار.. الغراب.. أشجاراً.. عصافيري.. فدية صغرى.. يا حناء).
كما حشدت طائفة من الأزمنة للأفعال المضارعة والماضية والأمر لتمثل طبيعة المراحل التي مرت بها فلسطين
فالأفعال المضارعة:(تعلمين.. يحضن.. يأوي.. سأصادر.. تحكي.. تراقب.. ترد.. تجنيها.. سأصادق.. أفضي.. ترفرف.. يغنيها.. يسكب.. تنثال.. يحييني.. تناديني.. تخرج.. يفرِح.. يكتبني).
والأفعال الماضية:(أينعت.. روّتهُ.. استراح.. هوى.. تكبّد.. أسبلت.. غدرت.. سرقوا.. احترفوا.. تقمّصوا.. استقالوا.. سكن.. ضاعت.. تبسّم.. احترف.. ماعلموا).
وأفعال الأمر:(فذوبي.. ضميني.. أعيديني).
هذه الأزمنة لها علاقة بتاريخها الماضي والحاضر والمستقبل
كما أن شاعرتنا استطاعت أن تعزف قصيدتها على نغماتٍ جميلة من شعر التفعيلة التي لم يسبقها إليها أحد.
وفي الختام.. نجد بوناً شاسعاً بين لغة الواقع الذي امتازت به ولغة السراب التي يلهت وراءها غيرها.
نلمس أيضاً الفرق الكبير بين نبع الحب الصافي عندها ومصدر الكذب والخداع عند كثير من أهل الوهم.
إننا أمام شاعرة هي رمز النقاء وعنوان الطهارة، لذا نقول لكل من هام بشعر خالٍ من الجمال والرواء هذه فرصتك لتشغل عقلك وتغذي فكرك بما تنثره من درر في قصائدها.
إن شعر مقبولة عبد الحليم هو بوصلة وقبلة الحب والصدق والوفاء.

جواد اسماعيل الهشيم

0

تعليق واحد

  1. شكرا من القلب لقراءة وافية عميقة في تنايا النص
    لن يفيك كل الكلام وكل ما قد يقال لن يفيك يا ابن غزة هاشم يا ابن فلسطين الأبية
    كيف وقد قرأتني بهذا العمق الكبير وكأنك دخلت الإحساس عندما كان يختلج الروح … نعم هو حبي الذي كثيرًا ما سألوني عنه يندهشون لهذا الرباط المقدس بيني وبين أمي فلسطين والجواب بسيط نعم قد رضعت لبن طفولتي من ثدي حبها حتى نما في قلبي وصار وطن …
    شكرا لهذا الفيض الذي غمرني بالكثير من السعادة
    شكرا شاعرنا الراقي جواد الهشيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة