عطر المرأة المسلمة

تاريخ النشر: 20/05/15 | 11:01

قال الله تعالى مخاطبا رسوله الكريم:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل، 89)، فقد بيّن لنا القرآن الكريم ما ينبغي علينا أن نفعله للوصول إلى رضى الله تعالى، محققين بذلك السعادة في الدنيا والفوز بالآخرة. فكان الأمر بالتزين معبرا عن اهتمام الإسلام بمظهر المسلم ونظافته إذ إنّ النظافة من الإيمان.

قال الله تعالى مخاطا المؤمنين:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(الأعراف،31) وبعد أن أمر الله سبحانه الناس بأخذ زينتهم عند كل مسجد، نعى على أولئك الذين يحرمون طيبات ما أحل الله ويبالغون بإظهار شعثهم تقربا إلى الله تعالى، فقال تعالى في الآية التالية من نفس السورة: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}(الأعراف،32)، وفي الآية اللاحقة يبين الله تعالى أنّ ما حرمه هو الفاحشة ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي والشرك والتقول على الله بغير علم، وليس طيبات الحياة من الزينة وغيرها. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف، 33).

والإسلام إذ يدعو للزينة والتجمُّل فهو يحرص أن يكون ذلك منضبطا بأخلاق الشرع محققا مبتغى الشارع في دعوته للتزين، بعيدا عن الإغراء والإفتتان والإنزلاق نحو الشهوات.

يقول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا… وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور،30_31)

هذه الآية تأمر المسلمة أن لا تبدي زينتها إلا ماظهر منها، وإذا كان التطيب للرجال من السنة حيث أمر به النبي صلى الله عليه سلم إنسجاما مع الآيات التي تأمر بالتزين، فهل خروج المرأة متعطرة هو من قبيل الزينة الظاهرة أم أنه من الزينة التي ينبغي أن لا تظهر إلا لزوجها ومحارمها؟ وفيما يلي سنناقش هذا الموضوع لنستجلي حكم الشرع فيه.

الأحاديث الواردة في عطر المرأة:
الأحاديث الواردة بخصوص عطر المرأة تنقسم إلى ثلاثة أقسام ، القسم الأول ينهى عن خروج المرأة متعطرة، والثاني يشير إلى حرمة ذلك في وقت دون آخر، والثالث يشير إلى جواز ذلك. وقد يبدو أن هناك ثمة تعارض بين الأحاديث، والصحيح أن لا تعارض بينها، ويظهر من مجموع الأحاديث التفسير الدقيق لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}

الأحاديث التي تنص على التحريم:
1- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية »

واختلف العلماء في معنى الحديث. فقال بعضهم أن اللام في الحديث هي “لام التعليل”. أي إن قصدت أن تفتن الرجال بريحها فهي آثـمة، وإلا فلا. ولذلك رآى ابن رشد الجد عدم حرمة خروج المرأة متعطرة، إلا إذا كانت نيّتها التعرّض للرجال. وقال البعض: بل هي “لام العاقبة”، كاللام في قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} (القصص: 8). فالتقاط فرعون موسى عليه الصلاة والسلام كان عاقبة له. واحتجوا كذلك بما رواه الدارمي في سننه: أخبرنا أبو عاصم عن ثابت بن عمار عن غنيم بن قيس عن أبي موسى: «أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فيوجد ريحها فهي زانية وكل عين زان». فلم يأت هنا الحديث مع اللام، وهو يفيد إطلاق تحريم خروج المرأة متعطرة فيجد الرجال ريحها، قصدت ذلك أم لم تقصد. وأجيب على هذا بأن هذا الحديث موقوف غير مرفوع، لا حجة فيه. ولو صح إسناده لكان شاذا لمخالفته مجموع الروايات الصحيحة، والرواية الشاذة لا عبرة بها.

2- روى الترمذي بإسناده عن غنيم بن قيس عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية) الترمذي، وقال هذا حديث حسن صحيح. وهذا الحديث رواه غنيم بن قيس عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، كالحديث الأول حيث انفرد بروايته عن أبي موسى.

3- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” إِنَّ خَيْرَ طِيبِ الرَّجُلِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ، وَخَيْرَ طِيبِ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ وَخَفِيَ رِيحُهُ، وَنَهَى عَنْ مِيثَرَةِ الْأُرْجُوَانِ “، رواه الترمذي وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .

4- روى أبو داوود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلَكِنْ لِيَخْرُجْنَ وَهُنَّ تَفِلَاتٌ.أَي تارِكات للطيِّب قال أَبو عبيد التَّفِلة التي ليست بمتطيبة وهي المنتنة الريح، قال امرؤ القيس إِذا ما الضَّجِيعُ ابْتَزَّها من ثِيابها تَمِيل عليه هَوْنَةً غيرَ مِتْفال، وقال الكميت: فيهن آنسة الحديث حيية ليست بفاحشة ولا متفال، والتفل: ألاَّ يتطيب فيوجد منه رائحة كريهة؛ من تفل الشيء من فيه: إذا رمى به متكرهاً. قال ذو الرمة: متى يحس منه ذائقُ القوم يَتْفَل.

ورد هذا الحديث بإسناد جيد، ولكن كما ترى فإنه يدعو إلى خروج المرأة إلى المسجد تفلة أي رائحتها كريهة، وهو مما لا يستقيم مع الآية التي تدعو الناس جميعا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد، ومخالفة الحديث للآية يلقي بظلاله على صحة الحديث، ولهذا لا نرى بالحديث حجة ملزمة لمخالفته ظاهر الآيات والأحاديث الصحيحة في هذا الباب.
وقد وردت آثار كثيرة تنص على التحريم المطلق لكن لا يصح منها شيء وقد اكتفيت بذكر الصحيح منها وما قاربه.

الأحاديث التي تشير إلى الحرمة في وقت دون آخر:
1_ روى مسلم عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةَ كَانَتْ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْعِشَاءَ فَلَا تَطَيَّبْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ).
2_ وفي رواية أخرى « إذا أتت إحداكن المسجد صلاة العشاء فلا تمسَّ طيبا ».
قال ابن مالك: «والأظهر أنها (أي العشاء الآخرة) خُصَّت بالنهي، لأنها وقت الظلمة وخلوّ الطريق. والعِطر يهيّج الشهوة، فلا تأمن المرأة في ذلك الوقت من كمال الفتنة. بخلاف الصبح والمغرب، فإنهما وقتان فاضحان». نقل ذلك الشيخ القاري في المرقاة. ويفهم من الحديث أن النهي منصب على صلاة العشاء دون غيرها.

الأحاديث التي يفهم منها جواز خروج المرأة متطيبة:
1- أخرج أبو داود في سننه عن عائشة بنت طلحة، أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، حدثتها قالت: «كنا نخرج مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكة، فنضمد جباهنا بالسُّك المطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا». وفي رواية (بالمسك المطيب). والمعنى واحد. فالسُّكُّ بِالضَّمِّ ضَرْبٌ مِنْ الطِّيبِ. والسُّكُّ: طِيْبٌ يُتَّخَذُ من مِسْكٍ ورامِكٍ. يُتَّخَذُ من الرامِكِ مَدْقوقاً مَنْخولاً مَعْجوناً بالماءِ، ويُعْرَكُ شديداً، ويُمْسَحُ بدُهْنِ الخَيْرِيِّ لئلاَّ يَلْصَقَ بالإِناءِ، ويُتْرَكُ ليلةً، ثم يُسْحَقُ المِسْكُ ويُلْقَمُه، ويُعْرَكُ شديداً ويُقَرَّصُ، ويُتْرَكُ يَومينِ، ثم يُثْقَبُ بِمسَلَّةٍ، ويُنْظَمُ في خيطِ قِنَّبٍ، ويُتْرَكُ سَنَةً، وكلما عَتُقَ طابتْ رائحتُهُ.

ولذلك قال القفّال ما نصه: «منصوص الشافعي رحمه الله في عامة كتبه أن: حكم المرأة في استحباب التطيّب للإحرام كحكم الرجل». والتخصيص لا وجه له ولا دليل عليه، والأصل أن الحديث عام وليس فيه تخصيص، والحديث التالي ينفي شبهة التخصيص.

2- عن سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ” أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ الْفِطْرِ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلَالٌ فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ تُلْقِي الْمَرْأَةُ خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا “. السِّخابُ: قلادة تتخذ من قرنفل وسك ومحلبٍ، ليس فيها من الجوهر شيء، وجمعه: سُخُبٌ. فالنساء كانت تأتي إلى المسجد وهن يتقلدن القلائد التي تفوح منها رائحة العطر، ولو كان ذلك منكرا لنهاهنّ النّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، بل إنّه عليه الصلاة والسلام قبل ذلك منهنّ كصدقة.

كيف نفهم الأحاديث مع الآيات؟
الآيات التي ذكرنا دعت إلى التزين، ولكن بعيدا عن الفتنة والإغراء، وهذا مفهوم من مجموع النصوص، فالآية مثلا لم تمنع المرأة من أن تلبس الخلخال برجلها ولكن نهتها عن الضرب برجلها لثير انتباه الرجال إليها، والأدلة لم تمنع المرأة من التطيب، ولكن مجموعها يشير إلى أن يكون ذلك بقدر، بحيث يطغى على رائحة العرق، ويحقق المقصود من الزينة المتمثل بإظهار النعمة والإبتعاد عن إثارة كوامن النفس لدى الرجال، والحديث صريح في ذلك؛ فقد نصّ أن المرأة إذا استعطرت فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي كالزانية، والأمر لا يتوقف على مجرد النية وإنما للفعل أثر في تحديد نيتها، فمن تعمدت المبالغة في التطيب مما يثير انتباه الرجال عادة لحقها الإثم سواء قصدت أم لم تقصد، ألا ترى أن القاتل لا يُسأل عن نيته، وإنما ينظر إلى آلة القتل في يده. وهذا مما ينبغي أن تفطن إليه نساء المسلمين عندما يردن التطيب. ومن نظر إلى نهيه صلى الله عليه وسلم عن تطيب المرأة عند حضورها صلاة العشاء يدرك تماما المقصود من المنع، حيث ظلمة الليل واحتمال تعرض المرأة للأذى في بيئة كان ليلها يتميز بظلمة حالكة لعدم وجود الإنارة في الطرقات والساحات.

وقد سئل الشيخ عطية صقر هل يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها بعطر خفيف تقصد به إزالة رائحة العرق ؟ فأجاب: إذا وضعت العطر بقصد أن يجد الناس ريحها ، فهذا واضح لا يشك أحد فى أنه مذموم ، فالقصد به حينئذ الفتنة والإغراء ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان العطر نفَّاذا أو قويا ، أما الخفيف الذى لا تجاوز رائحته مكانه إلا قليلا، والذى لا يقصد به الإغراء، بل إخفاء رائحة العرق مثلا فلا توصف المرأة معه بأنها كالزانية ، وذلك لانتفاء المقصد .
ومع ذلك يرى الشيخ عطية صقر كراهة أن تضع المرأة عطرا خفيفا يزيل رائحة العرق، ولا أرى للكراهة محلا بعد بيان الأدلة التي أجلت الحكم بعيدا عن التأثر بالموروث والعادات.

05

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة