المصافحة بين الرجال والنساء

تاريخ النشر: 18/09/14 | 18:47

قضية مصافحة الرجل للمرأة قضية شائكة، وتحقيق الحكم فيها بعيدًا عن التزمت والترخص يحتاج إلى جهد نفسي وفكري وعملي حتى يتحرر المفتي من ضغط الأفكار المستوردة، والأفكار المتوارثة جميعًا إذا لم يكن يسندها كتاب ولا سنة، وحتى يستطيع مناقشة الأدلة وموازنة الحجج بعضها ببعض لاستخلاص الرأي الأرجح والأدنى إلى الحق في نظر الفقيه، الذي يتوخى في بحثه إرضاء الله، لا موافقة أهواء النساء.

وقبل الدخول في البحث والمناقشة أود أن أخرج صورتين من مجال النزاع أعتقد أن حكمهما لا خلاف عليه بين متقدمي الفقهاء فيما أعلم:
الأولى: تحريم المصافحة للمرأة إذا اقترنت بها الشهوة والتلذذ الجنسي من أحد الطرفين: الرجل أو المرأة، أو خيفت فتنة من وراء ذلك في غالب الظن، وذلك أن سد الذريعة إلى الفساد واجب، ولاسيما إذا لاحت علاماته، وتهيأت أسبابه.

ومما يؤكد هذا ما ذكره العلماء أن لمس الرجل لإحدى محارمه، أو خلوته بها وهي من قسم المباح في الأصل تنتقل إلى دائرة الحرمة إذا تحركت الشهوة، أو خيفت الفتنة، وخاصة مع مثل بنت الزوجة أو الحماة أو امرأة الأب، أو أخت الرضاع، اللائي ليس لهن في النفوس ما للأم أو البنت أو الأخت أو العمة أو الخالة أو نحوها.

الثانية: الترخيص في مصافحة المرأة العجوز التي لا تشتهى، ومثلها البنت الصغيرة التي لا تشتهي؛ للأمن من أسباب الفتنة، وكذلك إذا كان المصافح شيخًا كبيرًا لا يشتهي.
وذلك لما روى عن أبي بكر ((رضي الله عنه)) أنه كان يصافح العجائز، وعبد الله بن الزبير استأجر عجوزًا تمرضه، فكانت تغمزه وتفلي رأسه.

ويدل لهذا ما ذكره القرآن في شأن القواعد من النساء، حيث رخص لهن في التخفف من بعض أنواع الملابس ما لم يرخص لغيرهن: “وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” [النور: 60].

ومثل ذلك استثناء غير أولي الإربة من الرجال، أي الذين لا إرب لهم في النساء، والأطفال الذين لم يظهر فيهم الشعور الجنسي لصغر سنهم من نهي المؤمنات عن إبداء الزينة: “أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء” [النور: 31]، وما عدا هاتين الصورتين، فهو محل الكلام ،وموضع البحث والحاجة إلى التمحيص والتحقيق:

فالذين يوجبون على المرأة أن تغطي جسمها، حتى الوجه والكفين، ولا يجعلونهما من المستثنى المذكور في قوله تعالى: “وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا” بل يجعلون ما ظهر منها الثياب الظاهرة، كالملاءة والعباءة ونحو ذلك، أو ما ظهر منها بحكم الضرورة كأن ينكشف منها شيء عند هبوب ريح شديدة أو نحو ذلك.

هؤلاء، لا عجب أن تكون المصافحة عندهم حرامًا لأن الكفين إذا وجبت تغطيتهما كان النظر إليهما محرما، وإذا كان النظر محرمًا كان المس كذلك من باب أولى، لأن المس أغلظ من النظر، لأنه أقوى إثارة للشهوة، ولا مصافحة دون أن تمس البشرة البشرة.

ولكن المعروف أن أصحاب هذا القول هم الأقلون، وجمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، يجعلون المستثنى في قوله تعالى: “إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا” الوجه والكفين.

فما الدليل عندهم على تحريم المصافحة إذا لم تكن لشهوة؟
الحقيقة أنني بحثت عن دليل مقنع منصوص عليه، فلم أعثر على ما أنشده وأقوى ما يستدل به هنا، هو سد الذريعة إلى الفتنة، وهذا مقبول من غير شك عند تحرك الشهوة، أو خوف الفتنة بوجود أماراتها، ولكن عند الأمن من ذلك وهذا يتحقق في أحيان كثيرة ما وجه التحريم ؟ ومن العلماء من استدل بترك النبي ((صلى الله عليه وسلم)) مصافحة النساء عندما بايعهن يوم الفتح بيعة النساء المشهورة، على ما جاء في سورة الممتحنة.

ولكن من المقرر أن ترك النبي((صلى الله عليه وسلم)) لأمر من الأمور لا يدل بالضرورة على تحريمه، فقد يتركه لأنه حرام، وقد يتركه لأنه مكروه، وقد يتركه لأنه خلاف الأولى، وقد يتركه لمجرد أنه لا يميل إليه، كتركه أكل الضب مع أنه مباح.

وإذن يكون مجرد ترك النبي((صلى الله عليه وسلم)) للمصافحة لا يحمل دليلاً على حرمتها، ولابد من دليل آخر لمن يقول بها.

على أن ترك مصافحة النبي ((صلى الله عليه وسلم)) للنساء في المبايعة ليست موضع اتفاق، فقد جاء عن أم عطية الأنصارية رضى الله عنها ما يدل على المصافحة في البيعة، خلافًا لما صح عن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، حيث أنكرت ذلك وأقسمت على نفيه.

روى البخاري في صحيحه عن عائشة: أن رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية يقول الله تعالى:”يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ”[الممتحنة:12]، قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) :”قَدْ بَايَعْتُكِ” كلامًا ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله :”قَدْ بَايَعْتُكِ عَلَى ذَلِكَ”.

قال الحافظ ابن حجر في “الفتح” في شرح قول عائشة :”ولا والله” الخ : فيه القسم لتأكيد الخبر، وكأن عائشة أشارت بذلك إلى الرد على ما جاء عن أم عطية، فعند ابن حبان، والبزار والطبري، وابن مردويه، من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن عن جدته أم عطية في قصة المبايعة، قالت:فمد يده من خارج البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: “اللّهُمَّ اشْهَدْ”.وكذا الحديث الذي بعده يعني بعد الحديث المذكور في البخاري حيث قالت فيه:”فقبضت امرأة يدها”فإنه يشعر بأنهن كن يبايعنه بأيديهن.

قال الحافظ : ويمكن الجواب عن الأول : بأن مد الأيدي من وراء الحجاب إشارة إلى وقوع المبايعة، وإن لم تقع المصافحة، وعن الثاني بان المراد بقبض اليد: التأخر عن القبول؛ إذ كانت المبايعة تقع بحائل، فقد روى أبو داود في المراسيل عن الشعبي أن النبي ((صلى الله عليه وسلم)) حين بايع النساء أتى ببرد قطري فوضعه على يده، وقال:”لا أُصَافِحُ النِّسَاءَ” وفي مغازي ابن إسحاق: أنه كان ((صلى الله عليه وسلم)) يغمس يده في إناء وتغمس المرأة يدها معه.

قال الحافظ: ويحتمل التعدد، يعني أن المبايعة وقعت أكثر من مرة، منها ما لم يمس يد امرأة فقط لا بحائل ولا بغيره إنما يبايع بالكلام فقط، وهو ما أخبرت به عائشة، ومنها ما صافح فيه النساء بحائل، وهو ما رواه الشعبي.

ومنها : الصورة التي ذكرها ابن إسحاق من الغمس في الإناء والصورة التي يدل عليها كلام أم عطية من المصافحة المباشرة.

ومما يرجح احتمال التعدد: أن عائشة تتحدث عن بيعة المؤمنات المهاجرات بعد صلح الحديبية، أما أم عطية فتتحدث فيما يظهر عما هو أعم من ذلك وأشمل لبيعة النساء المؤمنات بصفة عامة، ومنهن أنصاريات كأم عطية راوية الحديث، ولهذا ترجم البخاري لحديث عائشة تحت عنوان باب: (إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) ولحديث أم عطية باب: (إذا جاءك المؤمنات يبايعنك).

والمقصود من نقل هذا كله: أن ما اعتمد عليه الكثيرون في تحريم المصافحة من ترك النبي ((صلى الله عليه وسلم)) لها في بيعة النساء، ليس موضع اتفاق، كما قد يظن الذين لا يرجعون إلى المصادر الأصلية، بل فيه الخلاف الذي ذكرناه.

04

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة