دوي صرخة

تاريخ النشر: 03/09/14 | 8:10

كنت طفلا… واصبحت رجلا، ليس لانه حان الوقت لذلك أو لأنني اتمنى ذلك واستعجله بل لانني لا اريد ان اكون الطفل الوحيد بين الاطفال الرجال.
الاكتظاظ الفظيع للناس في هذه المدرسة يخنقني ورائحة العطب والغبار والانفاس البشرية يثيرني للعطاس، رؤوس كثيرة ووجوه ملونة بالحزن والتعب، اتشاغل بعدها و تأملها.
ضجة الصغار وبكائهم يقطع تأملي، اود ان اصيح بهم: لماذا تبكون ان لا احد في العالم سيسمع بكاءكم كفوا عنه وكونوا رجالا مثلي، لكنني ابتلع صيحتي وغيظي. صحيح، ان لهم الاحضان تكفكف دموعهم وتربت على اكتافهم اما انا فلي هذه الزاوية العفنة حضني وملاذي، ليتني استيقظ من هذا الكابوس واجدهم على اعتاب البيت ينتظروني ويطمئنوني ان كل ما حدث ما هو الا حلم بشع حتى لو مر عليه يومان، ارتمي على امي اقبلها واشرب عرقها المالح، الكز سماح فيلاحقني صوتها مزمجرا، آخذ لعبة فاطمة وارميها بعيدا فتبكي، اقفز على ظهر محمد واهرب لأختبئ وراء ابي احتمي به منهم جميعا.
تلقفني الحسرة، شعرت بغصة و بعيناي تكاد ان تندلق منهما الدموع فازدردت دموعي سريعا لئلا تفضحني.
انفجارات تهز المكان، ارتعد فاحمل موج ارتعادي بين يدي، امسكه بشدة وبحذر حتى لا يقع، فانا رجل ولا يجب ان اخاف.
الاصوات المريعة لسيارات الاسعاف تهدم اسوار النسيان والتلهي فينزلق كل شيء بسيل جرار عنيف، تبرز رؤوس واصابع كثيرة لا أقدر على عدها تعايرني و تردد برتابة: يتيم، يتيم.
اهرب فلا تتسع روحي، اشعر بالإسمنت يعتصرني من جديد، اختنق بالهواء الفارغ، اصرخ بفزع فلا يجيب احد، احرك رأسي بصعوبة فتنضح الدماء، يغرقني ملمسها اللزج، أتألم، حاولت من تحت الركام ان اتذكر متى كنت بوعيي اخر مرة، وتذكرت، كنت سأذهب خلسة لألعب قليلا الكرة فقد سأمت البيت وجدرانه، كانوا جالسين متحلقين يثرثرون، حملت كرتي وبينما انا اتسلل الى الباب انطفأ و انهال كل شيء.
انتشلتُ، فتعالت صيحات مكبرة، هرعت جدتي ودموعها تتساقط.
وفيما يضعونني في سيارة الاسعاف انتشلوا فاطمة رأيت ثوبها الممزق ورأسها يترنح ولعبتها التي ما زالت تمسك بها بقوة، اقشعر بدني و حثتهم جدتي على اغلاق الباب والذهاب فيما غبت عن العالم، لطالما زحفت الي صورتها هذه وداهمت احلامي واستيقظ ارتعش من فظاعتها، حاولت طيها لكنها لم تنطوي.
وحينما استفقت من إغماءي في المشفى صرخت في الجميع:
– اين هم؟ اين هم؟
– من هم يا ولدي
– اين فاطمة،ابي،امي،محمد و سماح؟ اين هم؟
– انهم بخير يا ولدي
– اريد ان اراهم
فصمتت جدتي، صمتت طويلا، فرغ صبري وكدت ان اصرخ فيها حينما اقترب مني احدهم:
– اهدأ وتقبل الامر لقد ماتوا
نظرت نحوه بنظرة عدائية قمت من الفراش و انا اصرخ بهستيريا:
– انهم احياء انتم تكذبون
احتضنتني جدتي، عصرتني وانا ارفس، ارفس الحقيقة، ارفس الموت ارفس اشفاقهم و الكاميرات التي تومض بوقاحة.
– اعيدوا لي عائلتي اريد عائلتي…

اقتادتني جدتي بعد ذلك الى هذه المدرسة، بينما كانت تتكلم وتتكلم دون توقف:
– لقد نجوت بأعجوبة، عليك ان تحمد الله انك لم تصب بالكثير من الاذى.
وتابعت بلهجة اكثر حنانا:
– اعرف انك مصدوم وغير مصدق انهم استشهدوا ولكن الموت مكتوب علينا جميعا وعلينا تقبل قدرنا،لا تخف فانا هنا معك وسأبقى بجانبك.
اردت ان ارد عليها وابوح لها برغبتي في اللحاق بهم ولكن لساني تجمد و زحلقت الكلمات خرساء.
قمت لاقف في طابور التونة واجلب الطعام لي ولجدتي فانا الرجل هنا، لا شيء سوى التونة ورغيف خبز، وعلي ان اكون شرسا فلا اسمح لاحد بان يأخذ دوري والا لن احصل على شيء، اكره التونة ورائحتها،آكلها مرغما بِحث جدتي ولإسكات عصافيري المقرقرة، سألت جدتي:
– لماذا التونة فقط الا يوجد شيء اخر يطعموننا اياه؟؟ اليس هناك مكان اخر غير هذا المكان المكتظ الوسخ نؤوي اليه؟؟
فأجابتني بعد وقفة صمت هامسة:
– انها الامم المتحدة يا ولدي، تدوس آلام الفلسطينيين بخطواتها المتعثرة.
لم افهم قصدها بجملتها هذه ولكنني مدرك انه ليس لدينا أي خيارات اخرى.
وصلت انباء سارة، هدنة في رفح و هرع الجميع الى بيوتهم وقمت انا وجدتي بالذهاب الى البيت ايضا و رأيته كومة حجارة، بيتنا المكون من طابقين كومة حجارة؟؟، تسلقت الكومة وبدأت ارمي و ابحث بين الحجارة عن كل الأشياء التي فقدتها ولا اجدها، انقشعت غشاوة صدمتي و تهدلت آلاف الاسئلة وتشعبت لمئات الفروع:
لماذا قتلوا؟ لماذا؟ لماذا عائلتي قتلت؟ماذا جنوا؟ لماذا هدم بيتنا؟ لماذا انا انام في ذلك المكان الضيق مع كل هؤلاء الناس؟هم ايضا قتل لهم اعزاء وهدمت بيوتهم، لماذا؟
ان من فعل هذا لن يهرب لن يستطيع ذلك مهما حاول.
انه كنعامة تفعل فعلتها وتغط رأسها في التراب و تترك جسدها بالعراء.
نما غضبي واشتعل ليس هناك شيء سيذهب سدى و سيحين الوقت الذي سيدفعون فيه الثمن.
اندفعت اسابق المصورين الذين كثروا الى الحطام، ابتسمت ابتسامة مغتصبة ورفعت شارة النصر للمصور الذي كان ملتحما بالكاميرا، ان الرجال يبتسمون رغم كل شيء ويرفعون هذه الشارة، و لن اكون ذلك الطفل الذي بكى وصرخ بجنون عائلته والتقطه الاعلام مادة طازجة، انني رجل كما كانت تقول امي دوما، كانت تقبلني وتقول انني جدع و رجل اتحمل المسؤولية.
كنت رجلها الذي يتبضع لها من البقالة ويشتري اللحم، كنت رجلها الذي يصحبها هي وسماح الى السوق يحمل الاكياس ويضرب العابثين، حتى انني تشاجرت مرة مع شاب ضعف عمري لانه صدم سماح بتعمد قذر، يومها صحت به:
– الا ترى امامك، تصدم الفتيات يا احول.
فقام برفعي من قميصي واراد لكمي لكنني ركلته ببطنه فانكفأ يعوي من الالم. لحقت بأمي واختي جريا وانا اقفز فرحا بفعلتي و بعد ان رويت لهما ما حدث سألتني امي بنيرة معجبة ملثمة بالعتاب:
– لماذا فعلت ذلك؟
– حتى يتعلم الا يعبث ببنات الناس.
أتذكرين يا امي؟؟ لقد اخبرت الجميع بفخر عن هذه الحادثة و غدا يا امي غدا ذكرى ميلادي العاشرة رجلك سيبلغ العاشرة، أتذكرين؟ لقد اتفقنا الا نحتفل هذا العام حدادا على الذين قتلوا والا نضيء الشموع ونطفأها فنحن بحاجة ماسة لها لعدم وجود الكهرباء، لقد اصبحت ممن قتلوا وتركتني وحيدا، رغم ذلك سأبقى رجلك يا أمي.
ابتعدت عن جدتي والبيت الذي لم يعد بيتا لأتجول في الحارة واثناء ذلك سمعت اصوات انفجار قذائف متتالية بعيدة ثم اقتربت حتى رأيت انفجارا في جهة بيتنا، ثم هدوء مفزع، هرعت و قلبي كان قد سقط و سحق، الم يقولوا هدنة؟!! وجدت جثة جدتي مقذوفة بعيدا وقد تمزقت تفتت ولم يبقى هناك أي دم ليسيل، فيما اقتربت منها توالت من جديد الانفجارات والقذائف، تكورت انكمشت فوق الانقاض المقصوفة مرة اخرى، تقلص رأسي المنفوخ و انهرت اخبط بيداي الارض و ابكي، ابكي وانا اصرخ صرخة مدوية دوي صرختي كان اعلى مما توقعت اعلى من القنابل، القذائف، الصواريخ والطائرات:
– لست رجلا بعد، انا طفل وما زلت طفلا انظروا انا ابكي كالاطفال واخاف، ارتعد وارتجف مثلهم، فارحموا طفولتي!

هدى ايمن ناصر

0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة