الإنسان كائن يتجاسر على الحلم المستحيل

تاريخ النشر: 30/08/14 | 23:43

أن تكون وحدوياً، يعني أن تكون حالماً. واقع التجزئة العربية، يقترن بإرادة تكريسها وتأبيدها من جهة، وبإرادة الغائها أو تجاوزها، طبقاً لحدود الحلم: أمة واحدة لها مكانتها ولها إسهاماتها ولها حضارتها.
أصرّ البيطار على التبشير بالحلم، وتأمين الأدلة الفكرية على ضرورته، وبذل الجهد لتكريسه إيماناً وصراطاً. لم تفلح النكسات في ثنيه عن التفكير بجدارة الحلم؛ وبفكر موسوعي وجهد عقلي توغل نديم البيطار في مغامرة الوحدة، مستكشفاً الطريق إليها، وسط «النكبة» وبعدها، بعبد الناصر وإقليمه القاعدة، بالمثقفين ودورهم، وبالإيمان وشروطه… لا أحد زود العروبة والوحدة، بعد ساطع الحصري، أكثر منه. وظل وفيا لها، فهي الحلم الذي فشل، والحلم الذي يجب أن يستعاد. ومن دون الحلم، يخسر الإنسان إنسانيته.
هذا النص، هو خاتمة كتاب «المجتمع الجديد»، قمنا باختياره، لإعطاء معنى خاص لكتاباته، التي استغرقتها الوحدة والايديولوجيا والاجتماع. «اليوتوبيا»، لا مفر منها. والتفكير بالمستحيل قدر إنساني جميل. فهل الوحدة هي «مستحيل» البيطار في الزمن الراهن:
حيث لا يوجد حلم حول أرض بعيدة، أرض مثال بعيد، يوجد يأس كبير وقلق عميق. حيث لا توجد أرض كهذه لا يوجد إعداد صحيح لمجرى الأحداث التاريخية بقصد الهيمنة عليها وإعادة تكوين التاريخ، حيث هذا لا يكون متوفراً تضيع التحديات الكبيرة التي يمكن أن تدفـع الإنسـان إلى الحلم الكبير وبذلك تضيع إنسانيته نفسها. مكسيم غوركي، مثلاً، غالباً ما يتعرض للدور الذي يمارسه مثال كهذا في حياة الإنسان. إننا نقرأ في مسرحية شهيرة له:
«لوقا: كان هنا مرة.. إنسان أعرف أنه آمن بوجود أرض يقوم فيها مجتمع فاضل حقيقي».
هذه هي إنسانية الإنسان: إنها الجسارة على التفكير بالحلم الكبير، على التفكير بالمستحيل!… لهذا نجد، في عبارة لاسكي الجميلة، «أن هناك حالمين في قلب الحلم… وطوباويين في قلب الطوبى». ما يعنيه هذا هو أن الإنسان يحلم، مع ظهور الحلم أو مع بداية تحقيقه، بتجاوز هذا الحلم في الشكل الذي ينتهي إليه. فالتاريخ يتابع مجراه دون توقف وليس هناك من حد يقف عنده الزمان التاريخي أو «الروح» الإنساني!… فرانسيس باكون كان قد صاغ هذه الفكرة منذ أربعة قرون عندما أشار إلى أن هناك طوباويين في «الأطلنطس الجديد»، في الطوبى نفسها، أن هناك حالمين في إطار الحلم. التاريخ لا ينتهي وهو دائماً يتمخض عن شيء جديد قادم يسمح بامتحان إنسانية الإنسان، امتحان قدرته على التفكير بالمستحيل!… بالحلم الكبير!…
التطور، كما كتب برغسون، خلق في الإنسان كائناً تميز بالقدرة على تطور متزايد في الاتجاه الذي كشف عنه حتى الآن، ولكن شرط أن يمارس هذه القدرة. ثم يضيف: «إن الكون يشكل آلة لصنع الآلهة»، ولكن ممارسة هذه الوظيفة الأساسية للكون على هذه الأرض غير المستجيبة ترتبط بهذه القدرة، ولكن ما تجاهله برغسون هو أن من المقدور على الإنسان بحكم تكوينه نفسه، وتكوين الوضع الإنساني الذي يتفاعل معه، أن يمارس هذه القدرة باستمرار. إن هذه القدرة قد لا تعني «التطور» كتقدم أو كتحسن مستمر، بل التحول أو التجاوز الذاتي، وهي قد تقود الإنسان إلى الدمار ولكنها قدرة تفرض ذاتها على الإنسان.
الإنسانية، بالنسبة لهيغل وماركس، لا تطرح سوى المشاكل التي تستطيع حلها، ولكن إن كان ما قلنا حول علاقة المثال بالواقع، حول التناقض أو التباعد المتأصل فيها والجدلية التي تكشـف عنها، حول طبيعة فكرة المجتمع الجديد والأسباب البعيدة التي تفسرها، إن كان هذا صحيحاً، فإن الحقيقة التاريخية تصبح بالضبط عكس ما يقوله هيغل وماركس، على الأقل من زاوية الدراسة الحالية والفلسفة الانتروبولوجية التي تعبر عنها، فالإنسانية كانت دائماً تطرح مشاكل لا تستطيع حلها وتنشغل بها كحاجة أساسية لها.
لاسكي يتساءل في دراسته المرجعية حول «الطوبى والثورة» إن كان رفض ماركس الانشغال بتطوير أو بنية الشكل الاجتماعي الجديد، المجتمع الشيوعي، ونفوره من أي فكر يقدم أية صورة مفصلة عن مجتمع كهذا، أي مجتمع ثوري أو طوباوي جديد ـ إن كان هذا الرفض لا يمثل فقراً نظرياً، خمولاً برغماتياً، أو رفضاً مذلاً للإقدام على الحلم!… الإقدام الضروري في إلهام الفعل الثوري وتحفيزه. ولكن ماركس اعترف أيضاً في سياقات مختلفة بضرورة «الحلم»، المثال، والنظرية الثورية كمخرج للواقع ودفعه إلى تجاوز ذاته «فالنظرية تصبح، كما كتب، قوة مادية حالما تهيمن على الجماهير، فالواقع يجب أن يحرك ذاته نحو المثال». إن النقد الذي وجهه ماركس وانغلز للطوباويين بسبب الصورة المفصلة التي كانوا يقدمونها حول المجتمع الجديد كان، في الواقع، يعبر عن مشاعر غامضة أو مختلطة لأنهما دافعا في مناسبات أخرى عن «الحالمين» أو ذوي القدرة على الحلم ضد اللامثقفين وأعداء الأفكار التقدمية. «إننا، على العكس، نشعر أننا سعداء»، كـما كتبا، «في الأفكار وبذور الأفكار الملهمة التي ظهرت في كل مكان في مجرى انشغالهم بالوهم» ولكن هذه الأفكار أو الحلول التي نتجت كانت «من نتـائج رؤوسهم فقط». قد يكون الطوباويـون الحـالمون تنـبأوا بحقائق غير معـدودة، ولكن ظـهور الماركسية هو الذي جعل من الممكن التدليل العلمي على هذه الحقائق».
هناك بين المفكرين من قال دائماً تقريباً إن العالم عاجز جداً عن التعلّم ولا يستطـيع بالتالي أن يستـفيد من حماقات العصور السـابقة: فكل عصر يسلك وكأنه العصر الأول، والأسوأ هو أن الناس لا يفيدون مما مضى، وكل جيل يكشف عن الأعراض نفسها.
من الممكن القول في ضوء هذا السياق إن الإنسان ليس بالضرورة عاجزاً عن التعلم، لأن المسألة ليست مسألة تعلّم بل هي على العكس مسألة تناقضات يكشف عنها الوضع الإنساني وتفرض العودة باستمرار إلى فكرة المجتمع الجديد. لهذا كانت هذه الفكرة تمثل، بين المثل المختلفة التي كان يمكن للإنسان التطلع إليها، التعبير الأعلى عن جسارة الإنسان على الحلم الكبير، لأنها تعني تحدياً لهذه التناقضات وطموحاً إلى إزالتها، أي إلى صنع المستحيل. ولكن في جسارته على هذا المستحيل كان الإنسان يغير في مجرى ذلك ذاته والتاريخ. غوته كان يتكلم باسم عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين عندما قال: «إنني أحب الذي يحلم بالمستحيل».
لا بد من دراسة تدعو إلى الكشف عن إمكانات الإنسان وتمجد هذه الإمكانات، وتدعو هذا الإنسان بأن لا يتهرب منها أو يغفلها بل أن يحياها حتى النهاية أو على الأقل يحاول أن يحياها حتى النهاية. إنها دراسة تحتفل بإنسانية الإنسان، بأصالة التعبير عن هذه الإنسانية والأمانة شبه الصوفية التي تعني، في ما تعنيه، التجاسر على التحديات الكبيرة التي تهز تلك الإمكانات، التجاسر على الاستجابة لهذه التحديات، والانتصار للإنسان، الإنسان الذي يجد حقاً إنسانيته في إعادة تكوين ذاته، في إعادة صنع التاريخ.
من الممكن القول إن كل تصور لفكرة المجتمع الجديد، المجتمع الكامل، هو تصور طوباوي في جوهره إن أردنا من ذلك القول بأنه مجتمع لا يمكن أن يتحقق أو انه غير عملي. إن أحد المفكرين الأميركيين يصف المرحلة التاريخية الحالية كمرحلة تم فيها التحول عن «الطوبى» إلى «الطوبى ـ المضادة» ثم يذكر الأسباب التي أدت إلى ذلك. ولكنه رغم هذا الواقع يسرع إلى التحذير من النتائج التي يمكن أن تترتب على ذلك، لأن الإنسان يحتاج إلى الطوبى، فيكتب: «إن موت الطوبى يعني موت شيء إنساني عميق، أنه دون الطوبى يمكن للإنسان أن يتوقف عن الحلم بمجتمع أحسن، وأنه دون التخطيط لها في خيالنا فإننا لن ننجح أبداً في تحقيقها، ولكن يجب أن نتعلم دون أن نتخلى عن أحلامنا الطوباوية، بأن نحلم ولكن بطريقة أعمق وأكثر ذكاء». وسي رايت ميلز، المفكر الأميركي المتمرد على النظام الأميركي، كتب معبراً عن موقف اليسار الجديد: «إننا غالباً ما نتهم بأننا طوباويون في نقدنا وفي اقتراحاتنا… هذه الاتهامات تنطوي على قدر من الحقيقة، ولكن ألا يجب علينا أن نسأل: ما الذي نعنيه حقاً بكلمة «طوباوي»؟… وأيضاً، أليست طوباويتنا مصدراً كبيراً لقوتنا؟… طوباوي يشير حالياً، كما اعتقد، إلى أي نقد أو اقتراح يتجاوز الوسط كما هو… الوسط الذي يستطيع الناس إدراكه مباشرة ويأملون… تغييره مباشرة. إن عملنا النظري هو حقاً طوباوي من هذه الزاوية….
أمام المشاكل العديدة التي تواجه الإنسان حالياً يكشف تشاس «… بأن الإنسانية تستطيع أمام هذه المعطيات أن تجد خلاصها فقط في الطوبى كنظام عالمي يمتد إلى الأرض كلها وينتج من عمل غائي يقوم على العقلانية والفاعلية»، ثم يستشهد بمفكر آخر، جون بلات، الذي كتب: «ان العالم أصبح الآن في حالة خطرة إلى درجة لا ينفع معها سوى الطوبى». في العام الذي صدر فيه «البيان الشيوعي» كتب بيار ليرو الذي كان بين أول من استخدم كلمة الاشتراكية: «إنني أقول لكم بأنكم تعرضون الحضارة إلى موت محتوم في ألم مبرح إن لم يكن عندكم أية إرادة للاتحاد الإنساني».
فكرة هذا النظام العالمي أو الاتحاد الإنساني كانت تفشل مرة بعد أخرى في ترجمة ذاتها إلى الواقع، ولكن هذا لم يكن يعني بالنسبة للإنسان اليأس منها وتجاهلها.
هنا عظمة الإنسان: ملاحقة هذه الفكرة، هذا الحلم الكبير، رغم تنكر الواقع التاريخي له. هذا الواقع التاريخي كان يتنكر لفكرة المجتمع الجديد، ولكن الإنسان كان يسجل أثناء ذلك انتصارات ومنجزات متلاحقة في تحويل ذاته وسيادة وسطه. «إن العقل الإنساني» كما يكتب هـ. ج. والز «كان دائماً يحقق تقدماً في صنعه للطوباوات» هذا العمل لا يزال ضرورياً الآن كما كان سابقاً، في تحقيق خلاص الإنسان ومعالجة وضعه من الآلام المبرحة التي يتعرض لها. فهذا الخلاص أو بالأحرى القناعة به شيء لا يمكن أن يتحقق لهذا الإنسان، كما تكشف تجارب التاريخ، دون إرادة جذرية جديدة تحفزها جسارة جديدة على فكرة المجتمع الجديد.
فكرة المجتمع الجديد هي بالتالي مسألة نزوع إنساني إلى الخلاص وليست مسألة قناعات علمية موضوعية. الإنسان لا يستطيع، حتى الآن على الأقل، إن يخترق نهائياً سر التاريخ ولغز الكون عن طريق العقل فقط، ولهذا فهو يحتاج في عبارة كياركجارد، إلى «قفزة إيمان علماني، ولكنها قفزة ضرورية، كما يبدو كتعبير عن إرادة الخلاص في مجتمع جديد، هذا المجتمع قد يكون في حياة أخرى أو في هذه الحياة، ولكنه كان يفرض وجوده كمثال يوفر الطريق إلى هذا الخلاص. لهذا كتب أرنست رينان، مثلاً «الإنسان يموت في سبيل آراء وليس في سبيل قناعات، لأجل ما يؤمن به وليس لأجل ما يعرفه.. في ما يتعلق بالمعتقدات، إن المؤشر الكبير والدليل الأكثر فاعلية هما الموت لأجلها».
رينان كان يتكلم باسم رهط كبير من الفلاسفة والمفكرين الذين عبروا عن الإدراك نفسه لطبيعة علاقة الإنسان بالحياة والتاريخ. جورج سوريل، مثلاً، كان يعبر عن نفور شديد من المفاهيم التي يصوغها الفيلسوف العقلاني، التي يقدمها الفكر عن طريق التحليل والبرهنة المنطقية، التي يمكن مناقشتها وتمثلها منطقياً وموضوعياً كأساس للسلوك السياسي أو الإنساني بشكل عام، ولكنه كان يرغب في الوقت نفسه أن يكون هناك الكثير من الناس الذين يموتون لأجل أفكارهم، ولكن الأفكار التي تتخذ شكل مزيج ايديولوجي معقد، ما أسماه بالأساطير التي تثير المشاعر، وتتحرك على صعيد غير تحليلي، وغير تأملي، عن طريق الصور والرموز المثيرة.
مفاهيم كهذه كانت تجد مكانها وقوتها لأن إرادة الخلاص في فكرة المجتمع الجديد تجد، هي الأخرى، قوتها وضرورتها في الجسارة الإنسانية على الإيمان والرجوع إليها في مجابهة تناقضات الوضع الإنساني وتحديات التاريخ، لا في صحتها الموضوعية المقنعة كواقعة تاريخية يتمخض عنها هذا التاريخ. الفيلسوف الإسباني، دي أونامونو، عبر عن ذلك بوضوح وقوة فكتب: «عندما نحاول إعطاء شكل حي وملائم أي عقلاني إلى تطلعنا البدائي، الخالد، والأساسي لحياة خالدة واعية لذاتها، ولفرديتها الشخصية، فإن الحماقات الفنية، المنطقية، والأخلاقية تتراكم، وليس هناك من أية طريقة يمكن بها أن ندرك، دون تناقض أو حماقة، الرؤيا الطوباوية… ولكن…! ولكن نعم، يجب أن نرغب بها مهما بدت لنا أنها رغبة حمقاء، ولكن أكثر من ذلك، يجب الإيمان بها، بشكل أو بآخر، كي يمكن أن نحيا». هذا الإيمان بهذه الرؤيا، بفكرة المجتمع الجديد كانت بسبب طبيعتها ذاتها، تفرض كشرط لها جسارة إنسانية عليا على المثال، على الحلم الكبير.
بقلم نديم البيطار – السفير

uuu

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة