عندما كان للطب معنى آخر

تاريخ النشر: 23/08/14 | 10:50

دحرج هلال شوال دموعا من حجارة…
فوضى من أجساد متراكمة متزاحمة تتلوى عيونها من الألم المنقوع بالدم…
أكداس من شرائط بيضاء ملفوفة حول جثث هامدة في وداعة، غارقة في بحر الغيبوبة الأبدية…
تقطع شهقات الأنين والنحيب أوصال الأمل.
حركة لا تنضب وأبواق سيارات الإسعاف تزعق، تزخم الجو المكلوم أوجاعا،
تعلن وصولها ووصول المزيد ممن هضمهم الإسمنت وطالتهم أنياب الصواريخ وألسنة الموت!
فزع من إغفاءته التي لا تتعدى دقائق وسويعات على عويل كسر الزجاج، إستنهض همته و قام يترنح و يغالب تخبطه بدهاليزالإرهاق والصداع.
أسرع يلبي نداء دوى، زلزل ما تبقى من روحه المتعبة، لما لا؟ وماذا تعني له الراحة؟
سيقدم الحياة التي ربما تعني للآخرين شيئا بعد أن فقدت معناها بالنسبة له.
احتضنت كفاه اللحم الطري العاري، اليد مقطوعة والرجل مازالت تشر دما، برأس ووجه مدهون بالدم المغمس بالغبار والأتربة،
ركض يعطي الجسد الصغير دفعات من الإنعاش،عينه الطبية المتمرسة أيقنت موت الرضيع الا انه لم ييأس من انفجار بركان الحياة
وليعطي أم الصغير فسحة و إستراحة قصيرة من البكاء والنحيب المستأنف.
شعر بنوبة الإحباط تعاوده من جديد، تتفشى، تستفحل كسرطان مسعور، تأمل القطعة الملقاة التي ستنضم الى الالف،
أحضروا له قماشا أبيض ليلفه فيما تزايد نشيج الأم يجلجل أركان القهر.
قفزت خيالاتهم تتراقص أمام ناظريه باغته الألم هاجمه الواقع بشراسة الصواريخ والقنابل حاصرته آلاف الصور والذكريات التي ديست.
عبث الموت بخريطة حياته الوهمية التي رسمها وغيّرها إلى الابد، فجأة وجد نفسه مقطوعا دون أحد دون عائلة، أطفال، زوجة ولا حتى بيت،
كل شيء تبخر، اختفى ولم يبقى سوى روائح نتنة لخرائب حياته.
تتقاذفه التساؤلات، تلقي بظلالها الثقيلة، لماذا ما زال حكام العرب يتبولون على أنفسهم وفي أفواههم الى اليوم؟؟ ألم يحن الوقت ليكفوا عن ذلك؟!!!!
أين العالم من كل هذا؟! اين من يترنمون بسمفونية حقوق الإنسان؟!
لقد تعلم في الكيمياء ان الكهرباء الساكنة ستبقى ساكنة الى الابد، وان السالب سيبقى سلبيا الى الابد أيضا.
فماذا ينتظر؟؟!! ان يحدث المستحيل وتتغير القوانين الهزلية.
بين اكوام النساء، الشيوخ والأطفال المنطرحين على الأرض العفنة وبين عمليات بلا غرف وجرحى بلا اسرة، طرحت اليه طفلة يفور الدم من جلدها المنسلخ وهي تبكي صراخا صدعت له الجدران، تناول عدته ليخيط الجرح المنسطح على رأسها وظهرها، انصهر اشفاقه عليها مع قسوة الألم لا يوجد مخدر ولا معقم، اكبر هذه الطفلة التي ستتحمل الما يشك ان يستطيع هو نفسه ان يتحمله.
وبعدما انتهى من الطفلة اغمض عينيه المنهكتان وقد اطار الموت النوم منهما اطاحه، ركله، صرعه وبقي نوم ليس بنوم، توتر، قلق وتوجس انه الان غارق في العمل حتى اذنيه ولكنه متى انتهت الحرب سيدرك فداحة ما خسر، سيجد اللاشئ في انتظاره.
كان يعد الأيام في إنتظار انتهاء الحرب في غزة ليأخذ قسطا من الراحة، ليشبع نوما ويحتضن عائلته، يضمها، يشمها فردا فردا، يتنشق الأمان ولكن الحرب امتدت وامتدت وبدل ان تنتهي فاضت بالمزيد حتى استأصلت قلبه ورمت به تحت التراب.
تهيجه رائحة الموت و تنخر عظامه، تعوي أشلاء ومزق، تصرخ خياشيمه، ينتشل شظايا من روحه التي تناثرت بين جثث اطفاله الخمسة وزوجته وبين جدران البيت المحطم، اغتيلت أحلامه، اماله ومستقبله بابشع الصور واكثرها وحشية وسيضطر ان يبدأ بترتيب فوضى حياته وحده ومن الصفر.
صحيح ان أشياء كثيرة فقدت معناها في قاموسه لكن شعور اليأس لا يعرف طريقه اليه، انه منذ قرر ان يكون طبيبا كتب على نفسه الامل والبقاء بانتظاره والعيش حتى على اطلاله، عمله وحده يبعث على ذلك رغم الأجساد الضائعة والعيون المكحلة بالإثمد الاسمنتي رغم سيول من الدم والجثث الا انه حين يسد رمق جرح ويعالج جريحا مع نقص المعدات يعيد له بعض احساسه بإنسانيته.
خدر يسري، يشل أجزاءه، يشعر بدوامة تبتلعه وتبتلع تعبه يدوخ، يسقط وتضمه الأرضية الملطخة بالدماء المتجلطة، ارتخاء لذيذ بلا حراك واغماءة تأخذه لعالم آخر بعيد.
يصرخ هلال شوال جزعا، يكتم صرخته الفضاء الفارغ…
يفجر صاروخٌ المشفى في لحظة حقد، حقد على الإنسانية واصابتها في مصرع،ينطلق عويل مبحوح يمزق ستار الصمت،
تعبق الجو رائحة الموت وتزكم الانوف بها.
تهرع الأيادي تبحث عن ناجين، بينما تتغلغل دماءه الساخنة سخية في الأرض و تنظر جثته الكشف عنها، لتروي اشلاءه القصة.
وسيزف العالم الإرهابيون الذين قتلوا تحت ردم وأنقاض المستشفى!

هدى ايمن ناصر

3

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة