صمتُ الموزيّات

تاريخ النشر: 13/07/14 | 21:29

أجبتُ: “الحقيقةُ أنني، في هٰذه الأيامِ المجنونةِ، لا أفكّرُ.”
فما الجدوى من التفكيرِ ومن الإجابة!
لكنني، سرعان ما انتبهتُ إلى أن إجابتي مليئةٌ بالأخطاءِ، وأن عددَ الأخطاءِ فيها يكادُ يفوقُ عددَ الأحرفِ والحركاتِ التي تؤلفُ أربعَ كلماتٍ وحرفَ جرٍّ واسمَ إشارةٍ وحرفَ نفيٍ ونقطةً وفاصلتيْن.
فالحقيقةُ مطاطيّةٌ ومتحرِّكةٌ مثلُ الرمالِ العطشى على شواطئِ غزةَ وعسقلانَ وتل أبيب وصحراءَ كالاهاري. العصافيرُ، عندنا وفي كلِّ مكان، لا تحبُُّّ أسلاكَ الكهرباءِِ ولا طواحين الطاقةِ الودودة، ولا تصفِّقُ لطلقةِ الصيادِ المُُتقَنة.
الحقيقةُ، هذه الأيام وفي سائرِ الأزمان، شاردةٌ، تبحثُ عن مستقرٍ فتقذفُها الأفواهُ من طعمٍ إلى طعمٍ. فلا أبيضُنا أبيضَهم ولا أسوَدُهم أسوَدَنا، ولا المكابيونَ إرهابيين عندَ أنسالِ المكابيين، ولا القرامطةُ عادلين عندَ أنسالِ الخليفةِ، ولا الشهيدُ شهيداً عندَ قاتلِه. أما الطفلُ الصغيرُ، الذي يتخاصمُ مع سقفٍ يتهاوى فوقَ رأسِه، فهوَ من سقْطِ المتاعِ.
والحقيقةُ تبحثُ عن مَرجِعٍ، والمرجِعُ يبحثُٰ عن مَرجِعٍ. والتاريخُ يكتبُهُ الرابحون، ويعيدُ كتابتَهُ الرابحون القادمون، ليُكتبَ من جديدٍ حين تتبدلُ الأدوارُ.
واللهُ واحدٌ يجزِّئهُ من يشاءُ في خدمةِ امتيازاتهِ.
والحاضرُ، الذي كان مستقبلاً فردوسيّاً مُقلقاً وسوفَ يصيرُ ماضُياً مختلفاً عليه، هو مسرحٌ دامٍ؛ لا تُسدلُ فيهُ الستائرُ ولا تُطفأُ الأضواءُ، إلا لتبديلِ السيناريو قليلاً؛ من وقعِ النِّصالِ على النَّصالِ، على الدروعِ على الرّقابِ، إلى وقعِ الصواريخ على الصواريخ،ِ على السطوحِ على صرخةِ طفلٍ تعلَّمَ قبلَ قليلٍ الفصلَ بين الراءِ واللام، أو أقامَ بيتَ الراءِ على سَطوةِ الياءِ الجارفة.
قبل ثمانيةِ أعوامٍ، في الثامنِ من تموزَ وفقاً للتقويمِ الغريغورياني وعلى رقصةِ الأفلاك الرتيبةِ والمبتذَلةِ، كانت الأممُ تدكُّ شِباكَ سائِرِ الأمم، في طوكيو وسِيول. وكان ثلاثةٌ من جيشِ الربِّ، ربِّ الجيشِ والجنود، وقعوا في أسْرِ العدوِّ المؤبلَسِ. هذا في عرف تقويمٍ يعودُ إلى أبعدَ من زمنِ الفراعنة. أو هم اصطيدوا كالفئران وفقَ تقويمٍ يعودُ إلى ما قبلَ سقوطِ برجِ بابل. واختلفت ألوانُ الدماءِ من أحمرَ قانٍ إلى قاتمٍ إلى قرمزيٍّ إلى أسودَ كالبترولِ غيرِ المُكرّر. فوقعتِ الصواريخُ على صهواتِ الجليلِ وقِمَمِ الأرْزِ وحيفا وبيروتَ وعلى سكونِ ليلِ جبرانَ وفيروز. وحرثت القذائفُ والطائراتُ السماءَ والأرضَ وما تبقى من وجهِ الله في الناس. وبكى رئيسٌ أمامَ الكاميرات بُكاءً مُضحكاً.
والآن، في الثامن من تموز وفقاً للتقويمِ نفسِه ورقصةِ الأفلاكِ الرتيبةِ نفسِها، في منتصفِ الطريقِ بين كبيستيْن، تسقطُ البرازيلُ في برازيليا وريو دي جينيرو. ويُقتلُ في الشرقِ المستوحشِ ثلاثةٌ فتيانٍ من أبناءِ الربِّ المنتقمِ، ربِّ الجيش والجنودِ وفرسان الهيكل، فينضمونَ إلى قافلةٍ الشهداءِ، حسبَ تقويمٍ عتيق. فلا شهيدُهم شهيدَنا ولا شهيدُنا شهيدَهم. ولا ربُّنا ربَّهم ولا جبرائيلُهم جبرائيلَنا. أو هم يتعفّنون كالأفاعي وفقاً لتقويمٍ قديمٍ آخر.
ثمّٓ يُحرقُ صبيٌّ، خليّةً خليةً، فتنكسرُ آهاتُه، آهاً آهاً، على آذان الآلهةِ والملائكةِ والشياطين، وتتشظى الضمائرُ إلى ألفِ ليلةٍ وليلة.
وفي ساعاتِ الليلِ، قبيلَ سقوطِ حذاءِ سندريللا على بابِ الأميرِ الظريفِ، وقبيلَ هطولِ حفناتٍ من الموادَّ شديدةِ الانفجارِ على الرؤوسِ التي فقدت سقوفَها، يخسرُ القاتلُ والمقتولُ وأطفالُ البيوت المعتمةِ مباراةً مصيريةً، فيما تخدشُ القذائفُ البُراقيةُ سقفَ أرضِ الميعادِ ووجناتِ الشبابيك، وتنطحُ الصواريخُ، في ما يشبهُ غضبَ العناقيد، الصواريخَ وتحرثُ الطائراتُ من قلعةِ مسّادة خُوذَ الرومانِ وسماواتِ غزةَ وصنانيرَ الصيادين وسُمرتَهم وتسقطُ الأرضُ على رأسِ طفلٍ نائمٍ على الحدودِ في فراشٍ من الرعب.
وينتشرُ الغُبارُ ثمَّ تبتعدُ السماء.
وهنا، تختلفُ ألوانُ الدماء ونسبةُ الملوحةِ ودرجةُ الهيدروجين في دموع الثكالى.
وقبلَ أن تُسدَلَ الستارةُ، سيرفَعُ المُنتجون والمخرجونَ أسعارَ دموعِ التماسيحِ، وفقاً لقانون العرضِ والطلبِ. فهي ضروريةٌ جداً في هذه الأيام المجنونةِ، خصوصاً في قصورِ الرئاسةِ والاستوديوهات المكيّفة.
لكن، لا يجوزُ أن تكونَ الايامُ مجنونةً.
فلكي تكون مجنوناً، وجبَ أن تكونَ عاقلاً قبل ذلك. أما العقلاءُ فيسكتون، لأنّّ رعدَ القذائفِ يبتلعُ الموزيّات وأنغامَ إلٰهاتِ الغناء.
ومن جماجمِ المساكين تُبنى الهياكلُ والنُّصبُ التذكاريةُ. فليس سوادُ الشعبِ قادراً، لضيقِ ذاتِ اليد، على ابتياعِ تذكرةِ الدخولِ إلى المجالسِ المخصَّصة للذوات ولا على شراءِ ساعةٍ لإلقاءِ نظرةٍ أخيرةٍ على قطَّةٍ مُدلَّلةٍ.
بماذا نفكرُ؟
ممنوعٌ أن نفكرَ.
هنا وقتُ الأبطالِ البواسلِ والأشاوسِ والجنرالاتِ والربِّ المنتقمِ والأسلحةِ الحديثةِ ذاتِ التسمياتِ الخارجةِ من كتبِ الجلدِ والبرْدي.
هنا وقتُ غسلِ الدماءِ بالدماءِ والفوسفورِ، وتصنيفِ الكُريات الدَّموية على سلّمِ الألوانِ والأهواء.
هنا لا يصحُّ الكلامُ الآنَ بدونِ أحرُفٍ من نارٍ وفتْحاتٍ كأسِنّةِ الرماحِ وكسْراتٍ كالسهامِ المتفجرةِ وضمّاتِ إلى صدورِ الأمهاتِ والقبورِ فاغرةِ الأفواهِ وتنوينٍ يشبهُ الجُرفَ المتين.
ضاعتِ الحركاتُ كلُّها، على إيقاعِ الطبولِ والحنَّاءِ ورسمِ الأقنعةِ التي تُخرِجُ الوحشَ الذي فينا وتنثرُهُٰ على من ليس منّا.
لم يبقَ للعقلاءِ سوى حرَكةِ السّكونِ والجنونِ والجفولِ أمامَ الخطاباتِ التي تعيدُ الأندلسَ وتقيمُ مملكةَ داودَ وسليمان.
بماذا نفكِّرُ؟
التفكيرُ ممنوعٌ، والسيرُ مسموحٌ تماماً من اليمين إلى اليمينِ إلى اليمين. ومن ليسَ معي فهو ضدّي.
لم يبقَ لنا غيرُ التنازلِ عن تصفيقِ الجمهور والمشجِّعين.
فلا يغسلُ الجنونَ غيرُ الجنون.
وإذن، آنَ الأوانُ لكي ننشرَ جنونَنا على ما تبقى من حبالِ الغسيلِ وعلى صواري أعلامِ منتخبات المونديال وأبوابِ المدن المقدسةِ، الأبديةِ، التي يسجدُ فيها تُجارُ الدينِ والأساطيرِ للأصنام ويسجدُ فيها غيرُهم للحجارةِ الكريمةِ والصخورِ.
آن الأوانُ لكي نوقفَ الشمسَ على رؤوسِ أصابعِها، ما يكفي من الوقتِ، لكي يتسنى لشعبِ الله أن يخرجَ من عبوديَّتِه بالخروجِ من استعبادِه، وبما يكفي لأمٍ ثاكلٍ أن تمزّقَ ثوبَها وأن تُعفِّرَ شعرَها على دماءِ وليدِها.
آنَ الأوانُ أن نبرمجَ من الآن، الحلقةَ القادمةَ من الخطفِ والحرقِ وقصفِ المدفعيَّةِ والأعمارِ والخطاباتِ الناريّةِ وتجهيزِ صناديقِ الدموعِ المعدنيةِ لكي نبثَّهاعلى شاشاتِ 7D في مونديال قادمٍ، في تموزَ قادمٍ بين كبيسَتيْن اثنتيْن.
آن الأوانُ أن ندخلَ في جلدِ هاملت وأن نستعيرَ عينيْهِ ومنخريْه فعسانا نرى شبَحاً يحذِّرُنا من العباءةِ والخنجرِ، وعسانا نشتمُّ رائحةَ العَفَِن في مملكةِ الدنمارك.
ويحقُّ لنا الآن، كما في كلِّ آنٍ، أن ننامَ ببطئٍ يفوقُ سرعةَ طائرةٍ نفاثةٍ،
أن نحلمَ في هدوءٍ يطغى على صوتِ الانفجار،
أن نُغيرَ على طواحين الهواء بحصانٍ هزيلٍ ورُمحٍ من خشبٍ مهترئ.
ويحقُّ لنا أن نسألََ عن التسعيرةِ الجديدةِ. مجزرةٌ أم مجزرتان أم مجزرتان ونصفُ المجزرة؟
ويحقُّ لنا أن نمارسَ الجنونَ، فنكفَّ عن كوننا لقمةً للمدافعِ أو عيداناً للهبِ الحريق.
يحقُّ لنا أن نرى الألفياتِ الخمسَ الأخيرةَ، ليلةً قصيرةً واحدةً، قامت فيها اللغاتُ والممالكُ والإمبراطوريات وانكسرت.
ويحقُّ لنا، في هذه الأيام التي تشبهُ سائرَ الأيام ويختلفُ فيها ناسُها عن ناسِها، أن لا نسيرَ مثلَ القطيعِ وراءَ ربطاتِ عنقٍ تُتقنُ الإنجليزيةَ ووراءَ راياتٍ منسوجةٍ من ذقونِ آلهةٍ مزيَّفَةٍ ومزيِّفة.
يحقُّ لنا، في هذا المسلسلِ الذي لا ينتهي، أن ندافعَ عن لونِ دمائِنا وعن مذاقِ دموعِنا وعن سوادِ ليلِنا ومناديلِ حِدادِ الأمّهات.

إشارة:

*الموزيّات: إلٰهات الغناء في الميثولوجيا اليونانية القديمة.

بقلم: فريد غانم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة