الحاج شريف…

تاريخ النشر: 18/01/12 | 14:01

كُنّا جالسين –مجموعة من المعارف والأصدقاء في بيت أحَدِهم، عندما

دخلَ علينا شخص لا نعرفه، سلَّمَ بحياء ، ثُمّ قال بانكِسار:

أنا دخيل على ألله وعلى الحاج شريف ..!

عرفنا من تَوَجُّههِ أنّهُ يقصدني ،

_ وصلت.. ما بكَ يا رجل ؟

_ يا اخوي الحاج شريف، دَلّوني عليك أهل ألخير، شرواكم يا غانمين،

قالوا لي ما إلكْ إلاّ الحاج شريف، هو إلّي بخلِص لك حقَّك، وأنا داخل

على ألله وعليك يا حضرة الضابط، كلهم بِقولوا إنّك رجل نظيف ولا

تقبل ألظلم والتزييف .

وانا رجل كما تراني ..، مشيراً إلى ساقهِ المشلولة، والّتي بالكاد يُحَرِّكُها،

لكن اولاد الحرام لا يرحمون، إستقواني، ألله لا يسامحه وسرقني، سرق

مصاغ زوجتي، وكل ما نملك، وتَرَكَنا على الحميد – المجيد، نتجرّع

مصيبتنا ساعة بساعة، والله من يومها ما نِمنا لا انا ولا زوجتي، ولا

نُحِسُّ للزاد بطعم.

_ مَن هو ألّذي سرقَكَ ؟

_ الحرامي إللي عامل حاله شيخ،

_ حرامي وشيخ ّ! ما اسمه يا رجل ؟

_ أسمه (الشيخ سمعان ).

وقد فوجِئنا بهِ أنا وزوجتي، يدخل علينا بيتنا في قرية عارة، ونحن كلّنا

إخوان سواءً كُنّا من طولكرم أو من جنين أو عارة، واستقبلناه بالتِرحاب

وقدَّمنا له إللي ألله قَدّرنا عليه، وكان يبدو إبن ناس، له لحية سمراء،

تدُلُّ على تديُّنهِ، وهو شاب، ومظهره حسن، قال لنا إنّه ( الشيخ سمعان)

وقد حباه الله بِقُدرات من عنده، يستطيع بها شِفاء الكثير من ألأمراض،

وانّه سيشفي ساقي، ويشفي زوجتي، لأنّ حالتنا ناتجة عن المردة

والشياطين كما قال، وأنه سوف يطرد كل المردة والشياطين

الكُفار من الدار، غُرفة –غرفة، فلا يعودون يدخلونها، وما علينا

إلاّ أن نُدْخِلُهُ الغُرَف لوحده، يتلو رُقيّهُ، ويتمم طقوسَهُ، بعد أن

يُغلق الغرفة بالمفتاح، على أن لا نفتَحَها لمدّة سبع ساعات، وهكذا

تنظف ألدار من المردة والشياطين، ويتمّ شفاؤنا ..

صَدّقناه يا حضرة الضابط، وسلّمناه مفاتيح الدار والغُرف، يدخُلها

واحدة – واحدة ، يبخِّر ويرقى .. إلى أن انتهى من عمله، شكرناه

ودعونا له .. آمِلين الشفاء ..

لكننا بعد سبع ساعات أخذنا نفتح الغُرف .. وعندما فتحنا غرفة نومنا

عرفنا كل شيء .. ، لقد تمكّن ان يعرف أين نضع مصاغ زوجتي

مع ما نملك من نقود، وسرقنا، وسلبنا كل شيء من مال وذهب،

ونحن عاجِزَيْن ولا نقوى على العمل، يُريد إبن الحرام أن يقضي

علينا، يستقوي عجَزَة مثلنا ! لا يعرف الشفقة ولا الرحمة.

_ هل تقَدّمتَ بشكوى إلى جِهةٍ معيّنة كالشُرطة عندكم مثلاً ؟

_ نعم وبعد مراجعات عديدة من شرطة هنا إلى إرتباط هناك، طلعت

نهايته على ولا شيء .. ! قال هذا من سُكّان القدس، ولا نستطيع إحضاره

يعني حقّي بدو يضيع عينك – عينك ، والنّصاب الحرامي ينفد فيها !! هل

هذا يُرضي ألله ؟ ويُرضيكم يا غانمين ؟

لذلك أهل الخير دلّوني عليك يا أخوي الحاج شريف، وأنا عرفت أسمه

الحقيقي، أقاربي في طولكرم، ورام –ألله عرفوا لي إسمه، طلع مزيّف

إسمه ونصّاب، وإسمه الحقيقي ( حمّاد سالم الزرزير ).

_ هَدِّئ نفسَكَ أيُّها ألأخ الكريم، وتوكّل على ألله، وإن شاء ألله حقكَ

يرجع لكِ بالكامل ، عُد إلى بيتِكَ واطمَئن .

قام الحاج شريف مستَأذِناً من الحُضور ، .. لقد تركَ منظر الرجل المسكين

ذي الساق المشلولة أثرَه البالغ في نفسه ..

تذكّرَ ذلك اليوم الفاصل في حياته .. كان ذلك قبل ثلاثة عقود من الزمن ،

وكانت وحدات المقاومة المسلّحة تتسلل إلى أرض الوطن المُحتل بعد نكسة سنة 1967 بكلِّ الوسائل ، تستوطن الكهوف والمغاور تقول للمحتل :

لن تنعم بما غَنِمتَه من البلاد في حرب صُوَريّة _ وصَمتْ جبين دُوَل

عربية كبيرة بالعار، نحن أصحاب ألدّيار وسنمحو ذلك العار .

كانت الوحدات الفدائية تقاتل على طريقة حرب الغريلا فتقض مضجع

المحتل وتخلخل أمنه،

وكانت وحدته مكوّنة من ثلاثة رجال إنتقاهم بنفسه ، ممن عهدَ فيهم البأس

والإقدام ، دخلوا منطقة طوباس ، تمترسوا بين الصخور الشّماء ، إشتبكوا

مع قوّات العدو في معركة ضارية ، حاربوا كالأُسود الكواسر ، كبّدوا

المحتل خسائر عديدة ، وفجأة وخلال المعركة أصابته قذيفة ،

لم يفقد رباطة جأشه .. رأى ساقه وقد قُصِفت كغصن شجرة ، إلاّ أنّها

ظلّت متعلِّقة بالجسد كأنّما تعتذر له عن فراقه ، لكنّه رأى أنّها أصبحت

تعيق حركته ، والظرف صعب والمعركة محتدمة ..

إتّخذ قراره بسرعة وبشجاعة نادرة، إستلَّ سِنجيّه، وبتر ما بقي متشبّثاً

بالجسد من بقايا ساقه ، واستعان بأحد زُملائه على تضميد الجرح ،

واستمرّ مع رفاقه يُديرون المعركة إلى أن أنهوا مهمّتهم وعادوا إلى

قواعدهم .

هذه ذكرى لا تُنسى ، إنّها بطولة وألم .. وقد أكسبته إكبار زملائه وقيادته .

-وها هو أليوم يشغل منصًباً مرموقاً في وطنه المحرَّر، وقد استنجد به

هذا الرجل المشلول الساق، أخٌ من عرب الداخل، وقع فريسة لنصّاب

محترف لم يرحم عجزه ،

قال في نفسه سأصل إلى هذا النصّاب بأيّة طريقة ..

وصل بيته، توجَّه إلى الهاتف، إتّصلَ بمرؤوسيه ، طلب منهم بطريقة

قاطعة،

_ إقبِضوا على المدعو ( حمّاد سالم الزرزير) وبأية طريقة ..!!

وبعد متابعة وإلحاح منه جاءه الخبر عبر الهاتف ،

_ قبضنا على المتّهم ، إنّه شاب وملتحِ ،

_ حسناً جداً ، إهتموا بالموضوع جيّداً ، هل إعترف ؟

_ إنّهُ ينكر أيّ علاقة له بالموضوع ،

_ إنتفوا لحيته ! شدوا عليه ، لانه من غير المعقول أن يقوم شخص معَوّق

ومسكين من داخل الخط ألأخضر بالإدّعاء عليه اعتِباطاً ، هل فهمتم ؟

_ بالطبع سيادة المقدّم .

مضت ساعتان ، جرس الهاتف يرن في منزل المقدم –الحاج شريف ،

_ الو نعم ،

_ سيادة المقدم ، لقد اعترف ، واحضر المسروقات –الذهب والنقود .

– حسناً أُطلبوا المشتكي للتعرُّف على المسروقات ، ثُمّ سلِِّموها له .

تلقّى ( جميل العمر ) الخبر بين مصَدّقٍ ومُكَذِّب ..

هل تَمَّ كلُّ شيء بهذه السرعة ..منذ شكا للحاج شريف أمره ، يا له من

رجلٍ مخلص وصدوق ، لقد وعد ووفى ، هل سيعود له شقا العمر .. ، وذخر المستقبل ؟

شعر أنّ الحياة تعود إليه من جديد .

… رام الله – مركز شرطة المدينة .. سيذهب ولو لآ خر الدنيا ، ليستعيد

ذهبه ونقوده المسروقة .

إصطحبَ زوجته كعادته ، فهي تزيد من طَمَأنينتهِ .. ، إستقلاّ سيارة

أُجرة ، دخل مبنى شرطة المدينة ، قال للشرطي المناوب ( أنا جميل عمر

رزق) وقد استدعوني إلى هنا بخصوص ذهبي ونقودي المسروقة ،

_ إنتظر قليلاً يا حاج .

وبعد لحظات سمعَ :

_ تعال يا حاج ، تفضَّل معي ، ادخلَهُ غرفة انيقة نوعاً ما .. ، استقبله

الرائد (عدنان) مرَحِّباً ومُطَمئناً ، ثُمّ طلب منه أن يذكر تفاصيل ونوع

الذّهب والنقود ألّتي سُرِقتْ ..

ارتبكَ الرجل بعض الشيء ..، فهو لا يعرف فِئات النقود المسروقة

وانواعها على وجه التحديد ، فزوجته هي الّتي تضع النقود والذهب في

مكانها ، وتعدّها وتعرفها ،

_ أنا يا حضرة الضابط لا اذكر بالتحديد النوعيات والفئات ، لكن زوجتي

تعرف ،

_ واين هي زوجتُكَ ؟ هل حضرت معك ؟

_ نعم يا حضرة الضابط ، إنّها تنتظر في الخارج .

_ إذن إذهب ونادها ، لكي تتعرّف على المسروقات .

ذكرت الزوجة ذهبها قطعة –قطعة واصِفةً إيّاها بالتفصيل ،

شارحة كيف ومتى تمّ شِراؤها ، ثُُمّ انتقلت إلى النقود ، فوصفتها

بالتفصيل،

تأكّدَ الرائد ( عدنان) أنّ الذهب والنقود لهما ، فطلب من الملازم

ألّذي تحت إمرته إحضار المسروقات ..

وكانت المفاجأة للزوجة أكبر من قُدرتها على احتِمالها ، فحالما رأت

ذهبها ونقودها بين يديها شعرت بدوار وتراخٍ شديدين ، ولم تعد تُحِسُّ

شيئاً ..

سرتْ همهمة وارتِباك بين الموجودين ، أحضروا الماء ، نضحوا به

وجهها .. ، الزوج في غاية الحرج والإضطراب .. ،

بدات تصحو .. فتحت عينيها ، نهضت بصُعوبة ، توجّهت إلى الرائد

عدنان ، قبّلته قبلات ألإمتنان ، مع أنّه يصغرها سِنّاً ،

_ يا أُختي ، إهدئي ، تسلّمي ذهبكِ ونقودَكِ ، واذهبا بالسلامة .

نحن لم نفعل سوى ما يُمليه علينا واجبنا .

في السيّارة كانا صامتين .. ، الكلمات لا تستطيع أن تُغطي الواقع ،

الهدوء النفسي الّذي خيّمَ عليهما جمّدَ الكلمات في الحناجر ، شعرا

أنّ المسافة بين رام ألله وعارة –بين مرتفعات فلسطين ووهادها قد تقلّصت

إلى حدِ التوَحُّد .. ، لكنّه وجد نفسه يُفكِّر .. ،

ماذا لو لم يدلّوه على الحاج شريف ..؟

إنّه كان سيفقد ماله .. وعندها ماذا سيحدث له ولزوجته العاجزة .. ،

رُبّما لم يكونا يتحملان المصيبة .. فتزداد حالتهما سوءاً ،إلى أن يُصابا

بالعجز التام .. وتكون النِّهاية .. ،

إنّه لم يكن بعيداً عن هذا المصير .. فكم من مرّةٍ منذ سُرِقَ ماله ، كان

يصل إلى حافة أليأس ..،

_.. عوضك على ألله يا جميل ..

_وماذا ستفعل لك الشرطة ..؟

أنتَ ونصيبك .. إذا وقعت مع شرطة أولاد حلال ، ممكن أن يرجع

لك مالك .. أمّا ..؟

أمّا ماذا ؟ يتساءل بقلق ظاهر ..

_ يا حاج ، لقد جاء بعضهم صُفراليدين ، وخلال سنة أو سنتين

من عملهم في الشرطة أصبحوا يملكون عمارة ..! أو منزلاً فخماً ،

وسيّارة جديدة ملاّكي ، بالإضافة إلى سيّارة أُجرة –تاكسي يُشَغلّونها

لِحسابهم ..،

فهل فعلوا كل هذا من أل: 1600-شاقل ألتي يتقاضونها كراتب ..؟!

الكل يعرف ماذا يفعلون .. ، والكل يعرف عن علاقة هؤلاء مع

بعض تُجّار الذهب على وجه الخصوص .. ، والمخفي أعظم .. ،

وكيف تسكتون على هذا الشيء .,يعني حاميها حراميها .. !

_ وماذا بوسعنا أن نفعل ، هم ألشرطة ، وهم القوَّة .. ومع ذلك

فإنّه يحصل أن ينكشف أمر أحدهم فيُنقل من مكان عمله ، أو يُعاقَب

بطُرُق أُخرى ، لكن بعد ما يكون قد عمل عمله ..

إنتبه إلى أنّ السيارة إجتازت ألخط ألأخضر ، تنفّسَ بارتياح لأنّ نصيبه

أوصله إلى الحاج شريف ، خالس زوجته بنظرة ، وجدها تتمتم بكلمات

غامضة مشيرة بأطراف أصابعها إلى ألأعلى .. تغطّي وجهها سحابة من

ألهدوء وألإمتنان ، عرف أنّها تدعو في سِرِّها للحاج شريف ..

ودون أن يشعر ،وجد نفسه يقول بأعلى صوته ، كأنّما يريد أن

يسمعه الناس كلّهم .. شُكراً لكِ يا حاج شريف ..

بينما كانت ألسيارة تعبر مدخل البلدة.

‫2 تعليقات

  1. استاذي الكريم..حياك الباري وجمل ايامك بالسعادة والعطاء الخالد..

    قصة جوهرية المضامين..علينا ان لا نقتنع بالخزعبلات..علينا ان نفكر عقلانيا بكل

    ظواهر الدجل والحيل ..علبنا الحذر من المحتالين..

    الحياة بها رجال نخوة..تجدهم عند المصائب ووقت الشدة..

    الحياة مدرسة منها نتعلم الدروس والعبر..

    جدير بنا ان نسلك حياتنا باساليب ايجابية..عقلانية..بها مكارم ..وفضائل..

    جدير بنا ان نبتعد عن المنكر..والسلوكيات السلبية..

  2. أخي المحامي -جمال ابو فنة : تحياتي لكِ ،

    أشكركَ على هذا التوجه ،

    أودّ ان أُنوه بأنّ القصة واقعية وحدثت بالفعل ..

    لك تقديري ومودّتي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة