"عطرُ الخطايا" في قصيدة خالد اغبارية " كبرياء رجل"

تاريخ النشر: 09/01/12 | 2:35

“عطرُ الخطايا” في قصيدة خالد اغبارية “ كبرياء رجل

ما زال الشاعر خالد اغبارية “شاعر جبل مشيرفة” يطل علينا من سفوح مشيرفة الشامخة، بقصائده المثيرة الواحدة تلو الأخرى في عطاء غزير كهطول الأمطار من سمائنا الشاعرة الى أرضنا الواعدة، والتي لا تستأذننا في هطولها بل تجتاحنا اجتياحاً كالقصيدة، التي تكون هي متعة الشاعر الوحيدة كمتعة الفلاح بالمطر والموسيقي بالسمفونية، والطفل بالبكاء، والساهر بالقمر والعاشق بالصهباء والحبيب بوصال محبوبته، واليمامة بالسجع والهديل، والآلهة بالصلاة.

وكيف لا يصبح شاعراً من يسكن تلال مشيرفة ويطل على مصمص وعلى الوادي كله، يستيقظ فتتفتح عيونه على الشمس تشرق من الجبال الشرقية لتقبّل مشيرفة أولاً ثم مصمص ثم الوادي بحساسينه وصقوره، وتشم شذى الزعتر الجبلي الذي اينعت أوراقه بعد هذا المطر المبارك.

كيف لا يكون شاعراً من يعيش مع الكلمة وللكلمة في كل نسمة يتنفسها، وفي كل سطر تخطه أنامله.

وبعد، فأكاد أدعو قصيدتك السابقة بقصيدة الصمت، او حوار مع الصمت الذي يتكرس فيها حيث تتكرر كلمة الصمت أكثر من خمس مرات في دويها الطاغي. أهمها قولك:

ليس للصمت موطن غيري يتفيأ ظلاله

تلاحقني الكلمات فيه حاملة حزني

لا تقتربي أكثر

أخشى عليك من حزني

فموطنك الصمت يأوي الى ظلك لينعم به . وتكمن المفارقة في قولك:

تلاحقني الكلمات فيه حاملة حزني

ثم تطلب من حبيبتك أن لا تقترب أكثر لأنك تخشى عليها من حزنك. وتشرح كيف تولد الكلمات والقصيدة لديك، حيث تجتاحكَ القصيدة اجتياحاً ، وهذا تعبير موفق وناجح يدل على صدق التجربة ، فالقصيدة عندما تأتي لا تستأذن ليؤذن لها بالدخول، بل إن القصيدة الصادقة لا أجد أفضل من التعبير الذي استخدمته وهو الإجتياح. وفي ذلك الماح الى أن كتابة الشعر ليس فعل إرادي يقوم بفعله الشاعر متى أراد ، وهذا ما تؤديه كلمة اجتياح من معنى ، فالشعر الحقيقي إنما يجتاح الشاعر اجتياحاً ، والشاعر يكون مسكوناً متلقياً لهذا الاجتياح. وعندما نهدأ عاصفة هذا الاجتياح تكون القصيدة قد اكتملت ، وأكثر ما يخشاه الشاعر هو الصمت في انتظار اجتياح آخر.

ثم تنتقل الى القول:

الصمت في حضرتي يقتل كل شيء

والبوح بين ضلوعي يعيد روحي

أفلا تعلمي أن حروفي تجتاحني لأحدثها

أشتاق لها .. أحبها

وأعلم أنها تحبني

ولكن بصمت

التأثر الديني جليٌّ في هذه القصيدة، حيث يستحضر الشاعر قصة يوسف وامرأة العزيز

أراود حزنك عن نفسه

فيستبق الحب قبلي

أفلا أقد قميصه لأنجو منها

يا ليتها تراودني عن حزني

ثم يأخذ في حوار النظرات حينما تتعطل لغة الكلام وتخاطب عيناه عينيها، ولا يسأم من النظر اليها والتمتع بجمالها الذي ما خلقه الله إلا للمتعة والصبابة، والذي يكون آناً جنةًَ نعيم ، وآناً آخر نار جحيم. فقد تعلم لشاعر انها لا تملك إلا عطر الخطايا.

وتعلمت أنك أنثى لا تملكين إلا ” عطر الخطايا

خلسة هي نظراتي لها

رمقتها بجفن لا يكل من النظر في جنونها

ولا يسأم من التغني في جسديتها

انتظرت لحظات لكي أطيل مفردات الجنون والتغزل فيها

وأقبلت نحوي تختلس نظراتي

رمقتها بنظرة تتغنى بها

ورمقتني بنظرة غرور

ولكن الشاعر يدخل عنصر المفاجأة علينا حينما يقحم قصة درامية داخل السياق الشعري وقد قاربت القصيدة على الانتهاء، الأمر الذي أكسب القصيدة تحولاً درامياً ناجحاً أنقذها من الرتابة والطول والتكرار أحياناً. فبدون مقدمات يعلمنا الشاعر عن شخصية جديدة في القصيدة هو طفلها الذي لا زال يتسكع في مدنها، وهي تبحث عنه، وهو يبحث عن دمعه المتناثر هنا وهناك. فيقول الشاعر في بلاغة وتعبير راقٍ : اتبعي خطوات دمعه

لا زال طفلك يتسكع في مدنكِ

أنت تبحثين عنه

وهو يبحث عن دمعه المتناثر هنا وهناك

هل عرفت أين يكون طفلكِ ؟

اتبعي خطوات دمعه

وأخيراً يختم الشاعر قصيدته بلغة مأخوذة من معجم الخمريات، مستخدماً كلمات وأفعال تدل على تماهيه في الحزن :

من ترى يسكن حاناتي

بضع من الحزن في كأس يثمل حزنا

وكأنما تصافح الكؤوس هو إعلان لموعد الحزن

لنحتسي حزننا سيدتي

والقصيدة تحتاج الى تحليل أكثر من هذا، ولكنني أريد أن أقول أننا أمام شاعرٍ حقيقي ، قد لوّعته تباريح العشق والحياة، يمتلك أدوات الشعر كلها ، وكذلك ناصية اللغة العربية، ومن حقه علينا في موقع بقجة أن نكتب عن شعره، في هذه الطفرة النقدية التي يتبناها هذا الموقع المميز المتجدد.

وقد يمر الانسان العادي على القصيدة لا يرمي بها حجر، ويلقي بالا اليها، ويأتي مثل هذا النقد ليفتح عينيه وقلبه لها .

وأخيراً أشكر شاعر جبل مشيرفة على أن متعني بكتابة مثل هذا التحليل ، فقد اجتاحني اجتياحا. واسلموا جميعاً لأخيكم:

سامي ادريس

‫3 تعليقات

  1. […] كتب حول القصيدة دراسة وتحليل من د. سامي أدريس     اقرأ أيضاً في بقجة […]

  2. بارك الله في عمرك اخي د. سامي ادريس وحياك الباري
    لقد اتحفتني في تحليلك لقصيدتي ولا اقول الا انك انت الشاعر الحقيقي
    لقد قلت في وعني الكثير وانا لا استحقه لاني في بداية المشوار
    وكل ما يخطه قلمي من نبع حروفكم وكلماتكم الجياشة والوفيرة بالمعاني الفياضة
    قلتَ باني شاعر الجبل وانا اقبلها منك على مضض لان هذا الحمل علي ثقيل
    واخيرا سلمت وسلم قلمك الذي خطّ اروع الكلمات في حقي

  3. د. سامي ادريس:
    سلام لكَ وسلام عليك..
    حقّاً لهُو تحليل رائع يبعثُ الدفء في روحي وروح النّاصِرة.
    حسب رأيّي… أنَّ كلّ إنسان هو شاعر بحدّ ذاته. وإذا أردنا أن نوصل إلى الآخر شعورنا نحتاج الى أداة العقل حتّى تُحاكي العقل الآخر لتجعله على الشُعور الّذي تبغاه. طبعًا الى حدّ ما وهذا العقل يتحكّم بالأداة بمقدار ما أوسع الخالق على المخلوق من علم… والعلم يتجزّء الى فصلين:علم من خبر، وعلم عن يقين. والإثنين يحتاج كلّ منهما الى السّعي لاكتساب المقدار الذي تستطيع تحمّله. فصديقنا الشّاعِر خالد اغبارية شاعر عظيم ويستحق الكلام الجميل.

    دُمتُم بتألق
    ودّي وعبير وردي
    تحيّة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة