جرّافات تبني …… وتهدم !!

تاريخ النشر: 03/10/10 | 8:12

بقلم يوسف جمل

جرّافات تبني وتشق الطرق وتهيئ المسطحات للبناء في مستوطنات وعلى أراض محتلة متحدية كل القوانين والنظم ومتجاهلة للحقوق والملكية فتخترق الجبال بدون رحمة ولا شفقة , تدمر الأخضر من الشجر وتسحق الأسود من الحجر , تهجّر الطيور وترحّلها من أعشاشها عنوة , تُفزع الحيوانات وتطردها من أوكارها غصباً , تسلب الناس أراضيها بكل الطرق والأساليب والتجاوزات .

جرّافات تدمر كروم الزيتون في لحظات, وكل ما جنته أنها أينعت وأثمرت وأعطت مالكها حبة زيتون وقطرة زيت ! تقتلع أشجار الحمضيات بلا تردد وبلا قلب ولا ضمير.

جرّافات تدخل إلى مخيمات وقرى ومجمعات سكنية أو صناعية أو تجارية أو زراعية فتحيلها إلى دمار .

هي نفسها الجرّافات التي تحتاج إلى سنوات عديدة ومديدة لتدخل إلى مدننا وقرانا العربية في مشروع تعبيد طريق أو خطوط مجاري أو إقامة مؤسسة أو نصب تذكاري .

وربما يموت البعض منا وقد دفع مستحقات هذه المشاريع وجلس ينتظر حتى وافته المنية ولم يتم له أن يرى على أرض الواقع ما دفع ثمناً له ورسوماً وغرامات وعمولات من دمه وعرقه وجهده وكان موته أسرع من الشروع في تنفيذ هذه المشاريع الأولية والأساسية.

هي نفسها الجرّافات التي سرعان ما نراها وربما ينذر بقدومها بالساعات أو بعض الأيام على حد أقصى فنراها تعيث فساداً وتهلك الحرث والنسل وتلزمنا بدفع أجرة عملها تقديراً منا على ما أحدثته فينا من قناعة ويقين على عنصريتها وظلمها , وما خلفته فينا من حسرة وألم !

هي الجرّافات التي يقودها ويحرك عجلاتها ساسة شرعوا لها أن تهدم وتدمر وتقضي على كل ما يتسبب بجرح مشاعرهم وتخطي نظماً وقوانين وضعت لتحاصر فئة أو مجموعة من مواطنيها .

علموها الحب وعلموها الكراهية , علموها الهدم عندما يكون ما يسبب لهم الضيق من بناء ( غير مرخص ) لبيت ضاقت بمالكه السبل واضطر رغم كل القيود أن يبني هذا البيت .

علموها وصارت لديها الخبرة في إتقان العمل وغدت تعرف من أين تؤكل الكتف وكيف تحقق المزيد من الإنجازات من وجهة نظرهم وبقواميسهم .

علموها كيف تنشط في إعمار وبناء وتعمير وشق طرق عندما يكون ذلك في إقامة مدينة سكنية للأزواج الشابة أو متنزهات أو مؤسسات أو عابر طول أو عرض يصب في مصلحتهم وغالباً ما يكون على أملاك غيرهم وعلى حساب غيرهم وبأيدي غيرهم .

يحتاج أي مشروع عندهم إلى مدة زمنية بسيطة ليباشر بعمله وتنفيذه , وما بين ليلة وأخرى تلحظ التغيير والتطور والعمران , تماماً بنفس السرعة التي تأتي بها جرّافاتهم ومعداتهم لتهدم سوقاً أو بيتاً يهدد أمنهم ويقلق بالهم في بلدات تضعضعت بها البنى التحتية والفوقية , سلبوها حقها بأن تحكم بنفسها بشتى الحجج والادعاءات , وبمختلف القوانين والتشريعات , حاصروها في مواردها , وفي مؤسساتها وضيقوا الخناق عليها في جميع مناحي الحياة ويعملون على هزمها ثقافياً وفكرياً وعقائدياً كما استطاعوا أن يهزوا أركان اقتصادها وصناعتها وزراعتها وسحبوا أراضيها من تحتها , ويتشدقون بالمساواة بل بالتفضيل المصحح وبالوعود وبالتسويف والتأجيل والبيروقراطية والإجراءات وشح الميزانيات وغيرها وغيرها ونحن نعيش بالأمل , بعضنا ينظر نظرة تفاؤلية وبعضنا يلتزم الصمت والبعض مغلوب على أمره .

ولقد عاد ذلك الشاب من عمله في البناء في عمارة تجهز لاستقبال أزواج شابة وعائلات قادمة من بلاد الثلج والجليد ليجد أن خارطة أو خطاً أو ورقة أو قلماً عريضاً قضى على حلمه البسيط في إقامة بيت بقرار لا رجعة فيه لأن هذا البيت لم يستوف الشروط أو أنه استبق بحلمه ما هو مسموح له أن يحلم به أو تعدى بحلمه مرحلة الحلم ووصل إلى مرحلة المجازفة والاعتداء على القانون وصار مجرماً يستحق العقاب وليس هناك من عقاب أقسى وأشد من إلزامه بهدم بيته بيده عند عودته في نهاية الأسبوع من عمله في عمارة الثلج والجليد التي تم تسليمها وتدشينها وإدخال القادمين إليها وتسكينهم فيها وتزيين رؤوسهم بأكاليل الغار والورود لقدومهم , ولينعموا بالمساكن التي تتوفر فيها كل الخدمات والمستلزمات من شوارع وأرصفة ولافتات ومجاري وكهرباء وهاتف وماء وإطفاء ومن حولها الحدائق والمتنزهات وبقربها المدارس والمستشفيات أو العيادات والبنوك والبريد والمحلات التجارية وما إلى ذلك .

يعود ليبحث هذا (المجرم) الحالم عن جرّافة تجيد الحب والكراهية وتقدر على تنفيذ القرار فلا يجد إلا جرّافات الداخلية التي تقدر على ذلك وتجيد ذلك وتتقنه شر إتقان .

تصوير عمار يونس

 

‫3 تعليقات

  1. كالعادة.. كتابتك رائعة متألقة متميزة..
    اهنئك على هذه الكلمات..
    واهنئك على مقدرتك في نسج الكلمات بهذه المهارة..

  2. …ورغم جرافاتهم الصماء التي تجيد فقط الخراب وتدمير كل ما هو شامخ ويانع سنبقى شوكة في حلوق اصحابها، تلك بلادنا وارضنا وعنها مهما ضيق علينا سنبقى حتى وان بقي فقط متر…الى ان يأخذ الله وديعته…
    سنبقى نبني احلامنا بالأمل بغد افضل لأنه مستحيل دوام الحال…فالدولة العثمانية والإتحاد السوفييتي كانت من أعظم الدول وغيرها من الدول الكبيرة اين هي اليوم؟! في عالم تاريخ ذهب وولى ولن يعد ابداُ…
    بارك الله بك استاذ يوسف فأنت تكتب بدم قلمك من صميم واقعنا المر، تكتب بقلمك عن احداث مفرحة وأخرى مؤسفة في حياتنا في الوسط العربي خاصة والأمة العربية عامة، تكتب ناقدا موضوعيا لظواهر سلبية تنغص حياتنا لعل وعسى قرائها ان يعتبر ويسعى للصلاح والإصلاح معك..فمعا بتكاتف يد بيد وبقلب خلوص محب نصل الى الهدف المنشود…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة